بقلم: دارين طاطور*
يعيش العالم هذه الأيام أوقاتًا عصيبة بسبب تفشي وباء فيروس كورونا، الذي بات معروفًا لدى الجميع، كبارًا وصغارًا، حيث الناس أجمع يمضون حجرًا صحيًا وملزمون بالبقاء في بيوتهم. هكذا فجأة ودون سابق إنذار، توقفت حياة الجميع، تلك الحياة التي اعتاد الكل ممارستها يوميًا، وبدأ الفيروس في مشروعه لاحتلال الأرض وسكانها.
بينما أمكث مثلي مثل الجميع البيت مع التزامي التام بالتعليمات الصادرة عن وزارة الصحة، أتحدث عبر الهاتف مع الكثير من الأصدقاء والمعارف، وأقرأ ما يكتبه الأصدقاء من ردات الفعل في شبكات التواصل، والتي تتلخص فقط بتذمرهم وقلة صبرهم على الوضع في هذه الفترة. يتذمر الكل من الملل، عدم الخروج، عدم الذهاب للمقاهي والملاهي والشوارع، عدم التوجه للعمل وصعوبة الوضع الاقتصادي، هكذا وفقط لمجرد دخولهم هذا الحجر لبضع أيام قليلة، والتي ربما تمتد لأقسى حد لشهر أو شهرين، مع إبقاء إمكانية العمل والتعلم من البيت، والخروج منه فقط لشراء اللوازم الضرورية أو قضاء حاجة لأغراض حيوية وهامة فقط، وإلغاء كل النشاطات التثقيفية والترفيهية.
للأمانة عن نفسي، لا أشعر بكل ما يعيشه الناس من تذمر وملل، ومن يسألني عن وضعي هذه الفترة وكيف أعيشها أبتسم لدرجة الضحك، وأجيب أن هذه الأيام بالنسبة لي مجرد تسلية وليس حجرا بيتيا. فبعد أن قضيت قرابة الثلاث سنوات في حبس واعتقال منزلي، ومنها سنة و8 أشهر و27 يومًا في اعتقال تامٍ مجحف وظالم، ومع منعي من الخروج من البيت بتاتًا مع وجود قيد إلكتروني في رجلي، أيام حرمت بها من استعمال أقل الوسائل المتاحة للجميع اليوم، والتي تعد كوسائل إنسانية وحياتية هامة، كالعمل من البيت أو الخروج منه للتنفس لفترة قصيرة، أو لشراء المستلزمات الضرورية أو استعمال الشبكة والهاتف، وجود العائلة، العمل والتعلم. هذه الأيام التي نسيت فيها شكل البحر والسماء، صوت السيارات وصوت الناس، معنى العلاقات الاجتماعية، شكل الفيسبوك، والهاتف الذكي، أيام اشتقت بها لأن أغير حذائي البيتي وألبس مكانه حذائي الرياضي، لأخرج من البيت لو لخمس دقائق كي أمارس هوايتي المفضلة بالمشي أو الركض، وأتنفس القليل من الهواء خارج الغرفة التي تحولت لزنزانة عزل لي عشت بها وحدي. أيام اشتقت بها لأن ألبس ملابس غير ملابس النوم، وأن أبدلها بملابس الخروج عدى تلك الأيام التي كنت أخرج بها إلى المحكمة، الشعور بمعنى الشتاء والصيف والربيع والخريف، أن أعيش تبدل الفصول وأشعر بملامسة الهواء لوجهي، أن أرى الطيور تحلق في السماء، أن أسمع صوت الضجيج والحياة في الخارج، والكثير من المشاعر الأخرى التي اشتقتها فعلًا، واشتقت معها لأبسط التفاصيل التي لن تخطر ببال أحدٍ منكم.
رغم كل ذلك، مرَّت أيام الاعتقال هذه ومعها كنت أبحث عن طرق كثيرة لأظل قوية، أن أتماسك ولا أنهار، أن أنتصر على وباء الاعتقال هذا بأي ثمن، كنت كلما انتهى يوم أخاطب نفسي قائلة: “ها قد انتهى يوم آخر من هذا الاعتقال، وها هو يوم جديد قد أتى وسيكون مطابقًا ليوم البارحة”. مع ذلك، كنت أحاول بقدر الإمكان ومع الإمكانيات الموجودة والمتاحة لي، أن أستمر بصمودي وكلي أمل بأن يكون هذا اليوم الجديد مختلفًا عن سابقه، إلا أن ذلك مستحيلًا، فالأيام متشابهة والأعمال التي يمكنني القيام بها هي نفسها ومحددة جدًا. أيامي كانت معروفة، إذ كنت أقضيها في غرفة نوم صغيرة وعلى السرير ذاته، 24 ساعة بـ633 يومًا، فيها كنت فقط أقرأ وأكتب، أصلي وأسمع الموسيقى الكلاسيكية. كنت كلما عذبتني الأيام أكثر بروتينها القاتل، كلما قتلت الوجع بالكتابة والقراءة أكثر وأكثر، وقلت لنفسي أخاطبها: أنني حتمًا سأنتصر، وأحقق عكس ما أرادوه لي من هذا الاعتقال.
طوال أيام الحجر الصحي هذه، والتي ما زالت مستمرة، لم أنطق بكلمة “زهقت” أبدًا أمام أحد من أبناء عائلتي، في الوقت الذي أسمعهم ينطقونها على مسامعي كل بضع دقائق. “زهقت” لم أنطقها على مسامع أحد من الرفاق والأصدقاء، رغم أنني أسمعها على لسان كل من تحدثت وأتحدث معه.
رسالتي للجميع، إن أيام الحجر هذه هي نعمة، أو إن صح القول هي لعبة أمام السجن والاعتقال الذي عشته أنا شخصيًا، ويعيشه اليوم أسرانا وأسيراتنا في سجون الاحتلال. ففي كل يوم تعيشون به في هذا الحجر الصحي المفروض عليكم من أجل سلامتكم وسلامة من تحبونهم، اصبروا وتذكروا كلما أردتم التذمر من حجركم الصحي، أن هناك من يعيشون في السجون حجرًا احتلاليًا منذ العشرات من السنوات العجاف، واصبروا لأن هؤلاء عمالقة الصبر الصابرون والصابرات يعيشون وراء الجدران العالية والأبواب الموصدة. اصبروا لأنهم الصابرون والصابرات يعيشون في تلك الزنازين الموبوءة بكل أنواع الأمراض بلا أي علاج أو دواء. اصبروا فأسرانا وأسيراتنا صابرون وصابرات على أكبر وباء في هذا العالم، وهو وباء الاحتلال الصهيوني الإسرائيلي. اصبروا وابقوا في بيوتكم حتى ننتصر على وباء كورونا. ربما تتحد كل الإنسانية وتنتصر يومًا على وباء الاحتلال الصهيوني الإسرائيلي.
*أسيرة محررة – “عرب ٤٨”