بقلم: المحامي علي ابوهلال
انتهجت الولايات المتحدة الأمريكية وخصوصا في فترة ولاية الرئيس “دونالد ترامب”، سياسة تقوم على منطق الهيمنة والبلطجة والترهيب والتهديد، في علاقاتها مع الدول، والشعوب والمنظمات الدولية. كما اعتمدت سياسة الانسحاب من الاتفاقيات الدولية والخروج من عدد من المنظمات الدولية، وفي إطار هذه السياسة المتغطرسة اتخذت خطوة خطيرة في العلاقات الدولية، يوم الخميس الماضي، تمثلت في فرض عقوبات غير مسبوقة على المحكمة الجنائية الدولية في “لاهاي”، وعلى المّدعين العامين ومفتشي حقوق الإنسان الذين يشاركون في أي جهد للتحقيق أو محاكمة الأفراد الأمريكيين بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
ووقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمراُ تنفيذيًا بشأن فرض عقوبات على الأفراد المرتبطين بتحقيقات المحكمة الجنائية الدولية مع أفراد الجيش ومسؤولين أمريكيين آخرين.
وجاء في بيان له “أقرر بموجب هذا أن أي محاولة من المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في أي موظف من موظفي الولايات المتحدة أو القبض عليه أو احتجازه أو ملاحقته قضائيا دون موافقة الولايات المتحدة أو موظفي البلدان الحليفة للولايات المتحدة، التي ليست أطرافا في نظام روما الأساسي أو خارج نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، تشكل تهديدا استثنائيا وغير عادي للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة”.
يذكر أن الإدارة الأمريكية، هددت المحكمة الجنائية الدولية، في وقت سابق، وقالت إن الولايات المتحدة تدرس اتخاذ خطوات في مجلس الأمن الدولي لتقويض سلطات المحكمة، وستمنع قضاتها من دخول الأراضي الأمريكية، وستلاحقهم في النظام القضائي الأمريكي، وستفرض عقوبات على مموليهم، إذا ما لاحقت المحكمة قضائيا المواطنين الأمريكيين، أو مواطني الدول الحليفة للولايات المتحدة. وأكدت أن الولايات المتحدة ستتخذ أي إجراءات لحماية مواطنيها من أحكام “الجنائية الدولية”، وقالت “الولايات المتحدة ستتخذ أي إجراءات ضرورية لحماية مواطنينا ومواطنين حلفائنا من أحكام هذه المحكمة غير الشرعية”.
وتتخذ الولايات المتحدة الأمريكية هذا الموقف من المحكمة الجنائية الدولية بناء على مزاعم بفتح المحكمة تحقيقا في جرائم حرب ارتكبها أمريكيون في أفغانستان، وبسبب جهود المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين.
أسباب فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية
كشفت العديد من المصادر الإعلامية أن خلفية هذه الأزمة تعود إلى شهر آذار الماضي، حينما أعطت المحكمة الجنائية الدولية الضوء الأخضر للتحقيق في جرائم حرب محتملة وجرائم ضد الإنسانية في أفغانستان بين عامي 2003 و2014، بما في ذلك جرائم ارتكبتها القوات الأمريكية ووكالة المخابرات المركزية.
وتمثل هذا الخطوة أحدث إجراءات الإدارة الأمريكية ضد المنظمات والاتفاقيات الدولية، وهو ما شمل حتى الآن اتفاق نافتا للتجارة الحرة في أمريكا الشمالية، واتفاقيات ومنظمات دولية أخرى. ومنها على سبيل المثال وليس الحصر الانسحاب من اتفاق باريس الخاص بالمناخ والموقع عام (2015)، والانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، والانسحاب من منظمة اليونسكو، ووقف سداد حصتها في ميزانية المنظمة الدولية، ومن قبل وقف سداد حصتها في وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين(الاونروا).
الجدير بالذكر أن المحكمة الجنائية الدولية أعلنت رفضها لقرار “ترامب”، بفرض عقوبات على عدد من مسؤوليها، ووصفت هذا الأمر بأنه يصل إلى حد التهديد والإكراه، وأنه محاولة غير مقبولة للتدخل في حكم القانون. وقالت الجنائية الدولية إنها تساند موظفيها ومسؤوليها ووصفت العقوبات الأميركية بأنها أحدث هجوم في سلسلة هجمات غير مقبولة على المحكمة.
ويتعلق التحقيق الذي تسعى إليه المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية “فاتو بنسودا” بتجاوزات ارتكبها جنود أمريكيون في أفغانستان حيث تقود الولايات المتحدة منذ 2001 أطول حرب في تاريخها. ورفعت إليها ادعاءات بالتعذيب تستهدف وكالة المخابرات المركزية.
ولقد أثار القرار الصادر عن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية والمسؤولين فيها، سلسلة من الانتقادات الدولية لما تمثله الخطوة من تدخل في حكم القانون. وعبر الاتحاد الأوروبي عن قلقه البالغ من الإجراءات التي أعلنت عنها واشنطن. كما أبدت الأمم المتحدة موقفا مشابها، وقالت إنها ستتابع المسألة. وقال “ستيفان دوجاريك” المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة: “لقد لاحظنا بقلق هذه التقارير حول الأمر التنفيذي الذي يجيز عقوبات ضد أفراد معينين في المحكمة الجنائية الدولية”.
أضاف “ندرك أنه كانت هناك تصريحات سابقة لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بأن أي قيود مفروضة على الأفراد سيتم تنفيذها بشكل متسق مع التزامات الدولة المضيفة بموجب اتفاقية مقر الأمم المتحدة”.
وأعربت وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينية عن قلقها البالغ إزاء تبني الإدارة الأميركية، لعقوبات وإجراءات عقابية ضد مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية وعائلاتهم وأي شخص يتعاون مع المحكمة. واضافت أن “هذا تصعيد خطير للتهديدات والترهيب ضد المحكمة، التي مارستها الإدارة الأميركية على مدى السنوات الثلاثة الماضية”. وأكدت الخارجية ان هذه المحاولات للتأثير على إجراءات المحكمة غير مبررة، وغير مقبولة على الإطلاق وتشكل تهديدًا لمبادئ العدالة الدولية والنظام القائم على القواعد ككل. وقالت: “ان اعمال العربدة، والبلطجة المتعمدة من الولايات المتحدة او من غيرها، يجب الا تؤثر او تقوض عمل المحكمة الجنائية الدولية واختصاصها، وولايتها..
من الواضح أن العقوبات الأمريكية التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تعتبر تصعيدا خطيرا للجهود الأمريكية، الرامية لعرقلة جهود العدالة التي تسعى المحكمة الجنائية الدولية لتحقيقها، انصافا لضحايا الجرائم الخطيرة، وهي تمثل هجوما على سيادة القانون في العالم، مما يضع الولايات المتحدة إلى جانب أولئك الذين يرتكبون جرائم الحرب والعدوان، وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، بل تستهدف حماية مجرمي الحرب الإسرائيليين الذين يرتكبون هذه الجرائم، في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وحماية القوات الأمريكية ووكالة المخابرات المركزية التي ترتكب هذه الجرائم في أفغانستان.
*محام ومحاضر جامعي في القانون الدولي.