بقلم: هاني المصري
على هامش تخريج الدفعة السادسة من برنامج “التفكير الإستراتيجي وإعداد السياسات”، الذي ينفذه مركز مسارات للعام السادس على التوالي، والذي تخرّج منه أكثر من 150 شابًا وشابة أصبحوا على اطلاع على مهارات وأسس التفكير الإستراتيجي؛ عزمت أمري على كتابة هذا المقال، الذي يحاول أن يجد العلاقة بين ضعف أو حتى غياب التفكير الإستراتيجي لدى القيادات والمؤسسات الفلسطينية، وما عاناه الشعب الفلسطيني ووصلت إليه قضيته.
لنبدأ بتعريف المسألة الفلسطينية، فهي قضية شعب وقع ضحية مشروع استعماري استيطاني يستخدم القوة والعنف والاحتلال والعنصرية والأبارتهايد؛ من أجل إقامة وتوسيع كيان ينادي، على أسس دينية وأيديولوجية وسياسية، بتجميع يهود العالم في فلسطين، وإحلالهم محل أصحاب البلاد الأصليين تطبيقًا لشعار الحركة الصهيونية “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب”، ومن أجل إقامة “إسرائيل الكبرى” التي حدودها حيث “تصل أقدام جنودها”.
وما يزيد من خطورة الوضع أن الكيان الذي أقامته الحركة الصهيونية ارتبط حتى ينجح بالدول الاستعمارية، وخصوصًا بريطانيا في المرحلة الأولى، وأميركا فيما بعد وحتى الآن، حيث تبنته هذه الدول ودعمته ليكون أداتها وقاعدتها الأمامية في المنطقة العربية؛ ليعمل على إدامة السيطرة عليها، وضمان استمرار نهبها، وضعفها، وشرذمتها، وتخلفها، وفقرها، وتبعيتها.
حققت الحركة الصهيونية نجاحات كبرى من خلال إقامة إسرائيل وحصولها على الشرعية على أكثر من نصف مساحة فلسطين، كما جاء في قرار التقسيم، ثم على 78% بعد أن ضمت أكثر من 20% متجاوزة قرار التقسيم التي ادّعت أنها وافقت عليه وتعاملت معه بالحقيقة كخطوة على طريق إقامة “إسرائيل الكبرى”، بدليل شن عدوان 1967، واحتلال بقية فلسطين، ورفض الانسحاب، وتعطيل وإفشال كل المبادرات والجهود التي استهدفت انسحابها، ولو بثمن عربي غالٍ جدًا يتضمن الاعتراف العربي والتطبيع الكامل.
وكذلك بدليل ضم بقية القدس وإعلانها عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل، وضم الجولان السوري، والحصول على الموافقة الأميركية على هذا الضم، إلى جانب استعداد دولة الاحتلال بعد طرح رؤية ترامب لضم 30% من الضفة الغربية بعد أن أعادت انتشار قواتها من قطاع غزة مبقية قواتها على شريط، وفارضة حصارًا خانقًا حولته إلى أكبر وأطول سجن في التاريخ، وشنت العدوان إثر العدوان عليه، وتهدد بالمزيد لضمان استمراره ضعيفًا لا يقدر على الوقوف على قدميه، وبحاجة إلى الدعم الذي يمر عن طريق إسرائيل.
ويضاف إلى النجاحات المذكورة للحركة الصهيونية، تراجع مكانة القضية الفلسطينية وموقعها عربيًا ودوليًا، وتغير الأولويات عند بعض الدول العربية كما يظهر بالهرولة نحو التطبيع في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد عقد معاهدات سلام عربية مصرية أردنية وما بينهما توقيع اتفاق أوسلو الذي غيّر طبيعة الصراع، وصوّره وكأنّه صراع حول طبيعة السلام ونزاع على الحدود، وبين طرفين متساويين. كما منح أوسلو الاحتلال مكاسب كبرى، منها الاعتراف بإسرائيل، والتنسيق الأمني، والتبعية الاقتصادية، وتأجيل القضايا النهائية، وفصل القدس عن الضفة، وتقسيم الضفة إلى (أ) و(ب) و(ج)، وصولًا إلى فصل القطاع عن الضفة، ما ساهم في حدوث الانقسام الأسود.
ورغم النجاحات الكبرى التي حققتها الحركة الصهيونية إلا أنها تعاني من مأزق تاريخي يظهر في أن الشعب الفلسطيني رغم كل ما عاناه لا يزال يؤمن بأن قضيته عادلة، وأنه على حق، وناضل ومستعد لمواصلة النضال لإنجاز حقوقه، والأهم أن نصفه بقي على أرض وطنه، ما يحول دون جعل إسرائيل تحقق هدفها الأساسي بإقامة دولة “يهودية” نقية على كل “أرض الميعاد”، وهذا كله أبقى القضية حية، مع تزايد المخاطر التي تستهدف تصفيتها.
لسنا هنا بمعرض الوقوف أمام المسيرة الفلسطينية برمتها، ولكن ما يهمنا هو التوقف أمام بعض جذور الخلل الذي عانته الحركة الوطنية منذ تأسيسها، وعلاقة ذلك بغياب التفكير الإستراتيجي إلى حد كبير عن ممارسات القيادات الفلسطينية على اختلافها.
لو كان منهج التفكير الإستراتيجي حاضرًا في العقلية الفلسطينية لساهم في التقليل من الوقوع في الأخطاء الكبيرة، أو عدم الوقوع فيها، ولعاظم من الإنجازات الكبيرة التي حققتها الحركة الفلسطينية، التي أهمها أنها حوّلت القضية من إنسانية تتعلق باللاجئين إلى قضية سياسية تحل بتمكين الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير مصيره على أرض وطنه، ووحّدت الشعب في كيان وطني حصل على الشرعية الفلسطينية والعربية والدولية.
تتنوع التعريفات للتفكير الإستراتيجي ولكنها تتمحور حول أنه ملكة عند الإنسان، تجعله يرى الأمور ومآلاتها، وتمكّنه من اتخاذ قرارات بعيدة المدى بناء على الرؤية التي وضعها مسبقًا. وهو نشاط فكري وطريقة حياة ومهارة قيمة جدًا، يركز على كيفية تحقيق النجاح والانتصار على المدى الطويل، وعلى كيفية التعلم من الماضي، مع الأخذ بعين الاعتبار المستقبل، وعلى ماهية الأشياء والأعمال، وعلى الرؤية والأهداف والأحلام الكبيرة وكيفية تحقيقها.
كما يتطلب التفكير الإستراتيجي عدم تقبل الافتراضات والخطط على أساس أنها شيء مقدس لا يمكن المساس به، وكذلك التفكير خارج الصندوق مع أهمية معرفة ما الصندوق الذي يجب التفكير خارجه، وضرورة الاطلاع المستمر على المستجدات ومتابعة التغيرات وتأثيرها، والتأمل والتفكير بعمق.
وينطلق التفكير الإستراتيجي من قواعد البحث العلمي ومناهجه، ولكنه يأخذ بالحسبان الحدس والتخيل والخبرة والإبداع والابتكار، وهو يقود ويحتاج حتى يتحقق إلى التخطيط الإستراتيجي، الذي يعتمد على الإجابة عن أسئلة ثلاثة: أين نقف الآن، وإلى أين نريد أن نصل، وكيف نصل إلى ما نريد، وليس اعتماد إستراتيجية رد الفعل، والتفكير والعمل يومًا بيوم، الذي يُفقد القدرة على التغيير والتجديد المستمر، لأن التغيير سنة الحياة، والذي لا يتغير باستمرار لا يستطيع مواكبة الحياة التي يعيشها والتأثير فيها، ولكن التغيير لا يعني أبدًا التخلي عن المبادئ والقيم والحقوق الأساسية.
إذا حاكمنا الحركة الفلسطينية على أساس مدى استجابتها لمتطلبات التفكير الإستراتيجي، سنجد أنها بعيدة عنها، فهي تخلت عن الرؤية التي انطلقت منها، ولم تحافظ على قضيتها كقضية تحرر وطني، بل تعاملت معها كقضية إقامة دولة على جزء من أرض فلسطين، حيث انطلقت من شعار تحرير فلسطين، ثم إقامة الدولة الديمقراطية على كل فلسطين بعد هزيمة المشروع الصهيوني وتفكيكه، ثم إلى إلى إقامة الدولة على أراضي 67، ثم في أراضي من ضمنها بعد موافقتها على مبدأ “تبادل الأراضي”، ثم إلى القبول عمليًا – كما ظهر بالتعلّق بأذيال ما سمي “عملية السلام” رغم موتها منذ سنوات طويلة – بإقامة سلطة على أمل تحوّلها إلى دولة، ثم العمل على الحفاظ على السلطة التي يراد لها أن تقبل الضم والتوسع حتى تبقى.
واعتمدت الحركة الوطنية إستراتيجية رد الفعل والتعامل اليومي وعدم التمييز بين الإستراتيجية والتكتيك، حيث لا يتم الاستعداد لليوم التالي من خلال وضع الخطط القريبة والمتوسطة والبعيدة، وتضع الرهان كله على خيار وسيناريو واحد، وإهمال الخيارات والسيناريوهات الأخرى، وبالتالي إذا فشل تكون الخسارة كبرى.
وتقع اليوم مرة أخرى بالفخ القديم الجديد، وهو تغيير يقوم على التخلي عن الهدف الكبير وتغييره بهدف أصغر، بذريعة كون تحقيقه ممكنًا، ليصار إلى الفشل في تحقيقه والقبول بهدف أصغر، وهكذا دواليك. مع أن التدرج في تحقيق الأهداف لا يتطلب أبدًا التخلي عن الأهداف الكبيرة، بل هي الحبل الذي يساعد على تحقيقها.
ما معنى طرح إيقاف مخطط الضم، الآن، على خطورته باعتباره سقف المطالب، مع أهمية ذلك، ولكن من دون تهويل ولا تهوين. فمن الخطر اعتبار تحقيق إلغاء الضم مبررًا لعودة كل أشكال التنسيق مع الاحتلال، وكأن ما كان قبله هو النعيم، فنكون حينها كمن يطبق شعار “إن عدتم عدنا”. وأما إذا لم يُطبق الضم، فلا نعرف ماذا نفعل، وكأن الضم هو الأصل، وتجاهلنا أن الأصل هو الكيان الاستعماري، وما تفرع عنه من احتلال وعنصرية وأبارتهايد وعدوان. فما الخطة في حال جرى الضم، وما الخطة في حال عدم حصوله، وتلك التي لو تم بشكل جزئي وتدريجي؟
إن سياسة الرجم بالغيب أو خوض معركة صفرية، تقوم على الرهان على ربح كل شيء أو خسارة كل شيء، عانينا منها كثيرًا ولا نزال، وأحذر من اعتمادها حاليًا.
وإذا كانت السياسة تعني التدرج في تحقيق الأهداف وفن تحقيق أفضل الممكنات، فإنها يجب ألا تتخلى عن الأحلام والأهداف الكبيرة، حتى لو كان تحقيقها يحتاج إلى وقت، لأن التمسك بها من أهم ضمانات تحقيق الأهداف القريبة، وبما يحفظ وحدة القضية والأرض والشعب، وبالتالي توفير القدرة على جمع كل الطاقات والإبداعات للشعب الفلسطيني أينما كان. أما تقزيم القضية إلى قضايا والشعب إلى “شعوب” والأرض إلى أقسام، وتقزيم الهدف إلى مجرد إقامة دولة على جزء من فلسطين باعتباره حلًا نهائيًا، فهذا ساهم في تجزئة الفلسطينيين ومسّ بهويتهم الوطنية وكيانهم الواحد.
إنّ الحاجة ماسة لبلورة رؤية شاملة تنبثق عنها إستراتيجية وخطط تستعد لكل الاحتمالات، وللجمع بين خيارات عدة ،والاستعداد للانتقال من خيار إلى آخر، وتكون قادرة على الحفاظ على القضية حية، وعلى وجود الشعب الفلسطيني على أرضه، وعلى ما تبقى من مكاسبه، تمهيدًا للتقدم على تحقيق أهدافه البعيدة. وحتى ننجح في ذلك لا بد من اعتماد نمط وعقلية التخطيط الإستراتيجي التي تجعلنا قادرين، أكثر بكثير، على مواجهة الوضع وتحقيق أفضل النتائج بأقل الخسائر.