رحيل القيادات العربية

30 أكتوبر 2020آخر تحديث :
رحيل القيادات العربية
رحيل القيادات العربية

بقلم: الدكتور مصطفى الفقي

إن نظرة على لقاءات القمة العربية ومؤتمراتها المتعاقبة توضح بجلاء، أن معدل التغيير في العشرين عاماً الأخيرة قد تجاوز التوقعات، فكل الدول العربية تقريباً قد تغير حكامها ورحل ملوكها ورؤساؤها، بدءاً من الملك الحسن الثاني في أقصى الطرف الآخر من المغرب العربي، مروراً بالرئيس حافظ الأسد والملك حسين بن طلال، والرئيس صدام حسين، وقيادات الخليج كلها تقريباً، فضلاً عما جرى نتيجة ما سمي «الربيع العربي» في تونس ومصر وليبيا واليمن والجزائر ثم السودان، وصولاً إلى التغييرات المتلاحقة للدولة اللبنانية التي تدفع ثمناً باهظاً للحرية المقترنة بالطائفية، وذلك يعني أن معدل التغيير في القيادات العربية يبدو أسرع مما تصورنا، وذلك على الرغم من اعترافنا بضعف الديمقراطية العربية والطبيعة الخاصة للنظم القائمة، وأهمية الفرد في السلطة العربية.

لذلك فإن تغيير الزعامات والقيادات يستتبعه تغيير في أسلوب الحكم ونوعية إدارة البلاد؛ إذ كان متوقعاً أن تحدث تغييرات كبيرة على مستوى الأقطار العربية تتناول الهياكل البنيوية لتلك النظم، وتدفع بالبلاد إلى اتجاهات جديدة أكثر حداثة وتطوراً، ولكن الأمر لا يبدو حتى الآن، مؤكداً لهذا التصور أو داعماً له، فالحالة العربية تبدو على ما هي عليه منذ سنوات طوال، وربما كان التغيير الوحيد هو زيادة التحديات المحيطة في الوطن العربي، سواء من إيران شرقاً أو تركيا شمالاً، إضافة إلى الدور الإسرائيلي الذي تسلل إلى جسد الأمة العربية وأصبح مؤثراً فاعلاً في حاضرها ومستقبلها.

ويهمني في هذه السطور أن أنظر إلى النظم العربية من خلال مفهوم الحداثة وتطوير أدوات الحكم وأساليب استخدام السلطة، وهي كلها قضايا عصرية تتطلع إليها كافة الشعوب ومختلف الأمم. ولعلنا نطرح هنا عدة محاور:

أولاً: إن الانتقال من عصر إلى عصر؛ بل من عهد إلى عهد، يحتاج إلى رؤية بعيدة وفهم شامل للعوامل المحيطة، سواء أكانت أساسية أو ثانوية. فالشعوب تتطور والمجتمعات تتغير، ولكن الأمر ذاته يحتاج إلى أدوات أخرى بالنسبة لنظام الحكم وسلطات الدولة، فهناك آليات لابد من اعتمادها والانطلاق بها نحو الغايات الكبرى والأهداف العظمى، وتقع في مقدمتها درجة المشاركة السياسية، ومدى نضج التجربة الديمقراطية التي تتواءم مع القيم والتقاليد والأعراف السائدة في الكيانات البشرية المختلفة.

ثانياً: إن تتابع الحكام العرب ملوكاً ورؤساء وأمراء لا يعني بالضرورة أن تطورات إيجابية تحدث، ولكنه يشير فقط إلى عامل الزمن وترتيب الأحداث، وتعاقب الشخوص على قمة السلطة في الأقطار المختلفة، وذلك منهج كمي أما الاختلاف في النوعية فتلك مسألة أخرى تتوقف على نوعية التعليم في الأقطار العربية والبيئة الثقافية السائدة، والنمط الاجتماعي للعلاقات المختلفة. ولا شك في أن درجة نضج الشعوب ترتبط بهذه المؤشرات التي تعكس معدلات التقدم السياسي والنمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي.

ثالثاً: إن معدل دوران النخب وتداول السلطات يعكس بدرجة ما، حيوية النظم وقدرتها على تحقيق الانتقال السلس للسلطة، وهو ما يعني أن قدرتنا على المضي نحو ما نسعى لتحقيقه، إنما يعتمد أيضاً على التربية السياسية التي تفرز النخب والأحزاب التي تقدم الكوادر اللازمة للعمل السياسي في كل قطر عربي، ولقد لاحظنا أن الأمر يرتبط في النهاية بمستويات التعليم ونوعية المعرفة التي تتلقاها الأجيال الجديدة. ولقد لفت نظري في تقرير دولي حديث، أن مستوى التعليم في الأرض الفلسطينية المحتلة يعلو ما عداه في الأنظمة التعليمية النظيرة للدول العربية الأخرى.

رابعاً: إن الصراع التقليدي بين الدولة المدنية العصرية والدولة المتجمدة غير القادرة على إفراز عوامل التقدم وأسباب التطور، يؤدي في النهاية إلى تحديد درجة النهوض والتمهيد للدولة التي نريدها. فالتطور سنة الحياة والتغيير فلسفة الوجود، كما أن التحولات الكبيرة في حياة الشعوب تترك بصماتها على المستقبل في أحلك الظروف وأصعب الأوقات.

خامساً: إن قراءة التاريخ تؤكد أن هناك أمماً سادت ثم بادت، شأنها شأن دورة الحضارات في التاريخ البشري؛ لذلك فإن الحراك السياسي هو المسؤول عن التحرك إلى الأمام في كافة الظروف، فلم نسمع في التاريخ الإنساني كله عن دول اجتهدت ثم باءت جهودها بالفشل، وانتهت بفراغ

يتضح من السياق الذي أوردناه أن معدل تداول السلطة ودوران النخبة في عالمنا العربي ليس بطيئاً ولكن مشكلته الحقيقية هي في التشابه بين الذاهبين والقادمين، نتيجة ضعف المشاركة السياسية، وغياب مظاهر التطور الحقيقي التي تدفع إلى الأمام وترفع من قدر الشعوب، وستظل أمتنا في انتظار تحولات جذرية لا تتعلق بالأفراد وحدهم، ولكنها تعتمد على هياكل النظم وأطر الحركة السياسية بمعناها الواسع، فضلاً عن الاعتماد على أساليب الحكم الرشيد الذي نشير إليه دائماً بتعبير «الحوكمة» بكل ما تحمله الكلمة من معان، وما تستدعيه من إجراءات.

بالاتفاق مع “الخليج”