بقلم: خافيير سولانا*
لا ينقطع النقاش أبداً حول أهمية القيادة والشخصية في العلاقات الدولية. ولكن بعد الاضطرابات التي شهدتها السنوات الأربع الأخيرة، لم يعد هناك أدنى شك في أن الكثير يتوقف على من يمسك بزمام الأمور، وخاصة في الولايات المتحدة.
علاوة على ذلك، كما يزعم جوزيف س. ناي من جامعة هارفارد على نحو مقنع ــ وعلى عكس ما يعتقد المتشككون ــ لا تخلو السياسة الخارجية من اعتبارات أخلاقية. لكل من هذين السببين، يُـعَـد انتخاب جو بايدن الرئيس التالي لأميركا خبراً بديعاً للعالم.
بطبيعة الحال، سيستفيد الشعب الأميركي بشكل مباشر من هذا التحول الذي طرأ على الأحداث. بفضل طبيعته الودودة واستعداده للانخراط في الحوار، كرس بايدن حياته المهنية السياسية الطويلة للعمل الأساسي المتمثل في بناء الإجماع بين الديمقراطيين والجمهوريين.
لم تكن مرونته موضع ترحيب دائماً بين التقدميين، ولم تكن حياته المهنية خالية من الأخطاء. لكن مرونة بايدن هي التي سمحت له على وجه التحديد بالتعافي من أخطائه والتكيف مع العصر.
كان اختياره الحكيم لكامالا هاريس لمنصب نائب الرئيس، على الرغم من الصدامات الحادة بينهما خلال الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، خير مثال على ذلك. وسوف تتحول قدرة كامالا هاريس على الوصول إلى الأجيال الشابة إلى رصيد عظيم لإدارة بايدن.
يجب أن يدرك التقدميون أيضاً أن سمعة بايدن الوسطية قد تساعده على صياغة الإصلاحات البنيوية التي تحتاج إليها أمريكا بطريقة مستساغة. في ستينيات القرن العشرين، أطلق رئيس ديمقراطي وسطي آخر، ليندون جونسون، واحدة من أكثر أجندات الإصلاح الاجتماعي تطلعاً إلى المستقبل في تاريخ الولايات المتحدة.
مشكلة بايدن هي أنه، على النقيض من جونسون، ربما يواجه معارضة قوية في الكونجرس. سيكافح الديمقراطيون للفوز بجولتي الإعادة في جورجيا في الخامس من يناير، واللتين ستحددان أي حزب سيسيطر على مجلس الشيوخ، فضلاً عن أن انتخابات هذا الشهر لم تترك لهم سوى أغلبية ضئيلة في مجلس النواب.
بالإضافة إلى هذه الصعوبات، تنامت في العقود الأخيرة الفجوة الإيديولوجية بين الديمقراطيين والجمهوريين، مما يعوق التعاون والتسوية بين الحزبين. يُـظهِـر استطلاع حديث للآراء أجري بالتعاون بين مجلة The Economist وشركة YouGov أن التصورات حول نتيجة الانتخابات تعتمد بشدة على الانتماء الحزبي.
على صعيد السياسة الخارجية، حيث يتمتع رؤساء الولايات المتحدة بمجال أرحب، ستواجه إدارة بايدن عدداً أقل من العقبات. علاوة على ذلك، عمل بايدن في هذا المجال طوال قسم كبير من حياته المهنية، في مجلس الشيوخ أولاً، ثم خلال ثماني سنوات قضاها في منصب نائب الرئيس في عهد الرئيس باراك أوباما.
في حين دعم أعضاء آخرون في حكومة أوباما بقوة التدخلات الخارجية واستخدام القوة، قـدَّم بايدن وجهة نظر معاكسة أكثر تحفظاً كان أوباما يقدرها بشدة. لهذا، ولأسباب أخرى، لم يكلّ أوباما قط من تكرار تصريح مفاده أن اختيار بايدن لمنصب النائب كان «أفضل قرار اتخذه على الإطلاق».
علاوة على ذلك، لو تمكن بايدن من فرض رأيه، فإن الولايات المتحدة ما كانت لتتدخل في ليبيا في عام 2011، وكان أوباما ليتجنب ما وصفه بأنه أسوأ خطأ في رئاسته: ترك ذلك البلد ينزلق إلى الفوضى.
من المؤكد أن حُـكـم بايدن في عالم السياسة الخارجية لم يكن معصوماً من الخطأ. ففي عام 2002، صوت لصالح حرب العراق، في حين أن رئيسه في المستقبل انتقد قرار خوض الحرب بوصفه قراراً «غبياً» و«متسرعاً». لكن بايدن أقر بالخطأ وأوضح أن إدارته ستبتعد عن المغامرات الأجنبية أحادية الجانب.
يعتزم الرئيس المنتخب إعادة الدبلوماسية إلى مكانتها المركزية في السياسة الخارجية الأميركية ــ بإحياء وزارة الخارجية المنهارة ــ وسوف يحابي بقوة التفاهمات متعددة الأطراف. سيكون أول قراراته الرئيسية في السياسة الخارجية العودة إلى الانضمام إلى اتفاقية باريس للمناخ ووقف انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية.
بالإضافة إلى هذا، فتح بايدن الباب أمام العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران الذي أبرم في عام 2015، ومن المتوقع أن يتبنى موقفاً أكثر إيجابية في التعامل مع منظمة التجارة العالمية مقارنة بموقف سلفه.
كان الديمقراطيون محقين تماماً في إدانتهم لتخلي إدارة ترامب عن العديد من مسؤولياتها الدولية. ولكن ليس من المرجح ولا المرغوب أن يتأرجح البندول إلى الطرف الأقصى الآخر في عهد بايدن.
تشير استطلاعات الرأي إلى أن الأميركيين لا يرغبون كثيراً في اضطلاع الولايات المتحدة بدور حارس العالم، وإن كانوا يريدون من حكومتهم أن تشارك بما يتفق مع الضمير وحس الواجب في حل المشكلات العالمية. وهذا هو على وجه التحديد ما تطالب به بقية العالم: من الواضح أن الولايات المتحدة «أمة لا غنى عنها» كما يروق لبعض الناس تسميتها، لكنها ليست الوحيدة.
سوف تستمر التوترات بين الولايات المتحدة والصين في ظل إدارة بايدن، وسوف يستمر النمو الاقتصادي السريع في الصين.
على الرغم من الحرب التجارية الصينية الأميركية الجارية أثناء رئاسة ترامب، واصلت الصين النمو بأكثر من 6% سنوياً حتى اندلاع جائحة (كوفيد 19)، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن الصين ستكون الاقتصاد الرئيسي الوحيد الذي يتوسع في هذا العام الكارثي. وسوف يكون لزاما على بايدن أن يعمل على إيجاد السبل للتعاون مع الدولة التي لا يمكن تجاهلها ببساطة.
في هذه المهمة، سيكون قادراً على الاعتماد على الاتحاد الأوروبي، الذي يُـقر «نهجه المزدوج» المطور مؤخراً في التعامل مع الصين بوجود خلافات عميقة لكنه يعترف أيضاً بالمصالح المتزامنة. سوف يوظف الاتحاد الأوروبي أيضاً ذلك النمط من الاعتدال (وإن كان ذلك وفقاً لنسخة أكثر دفئاً) في إدارة العلاقات عبر الأطلسي، بإقامة روابط وثيقة مع إدارة بايدن دون التقليل من الاستقلالية الاستراتيجية التي كانت الكتلة تحاول تعزيزها.
عندما تعهد بايدن أثناء حملته الرئاسية «بإعادة البناء على نحو أفضل»، كان يريد التأكيد أن خطته الاقتصادية تتضمن التصدي لمشكلات بنيوية تختمر منذ مدة طويلة بدلاً من إعادة الولايات المتحدة إلى عام 2016. وينطبق منطق مماثل على السياسة الخارجية، حيث تحتاج الولايات المتحدة على وجه السرعة إلى إعادة اختراع دورها الدولي.
الواقع أن نجاح هذه المهمة يتطلب قائداً متعاطفاً مثل بايدن، الذي يعرب دوماً عن فخره بقدرته على التعامل مع القضايا الحساسة. وبعد التقليل من شأنه في أغلب الأحيان، يتعين على منتقديه الآن أن يعترفوا على الأقل بأنه اكتسب الفرصة لإدهاشهم.
* الممثل الأعلى الأسبق للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، وأمين عام منظمة حلف شمالي الأطلسي ووزير خارجية إسبانيا سابقاً – عن “البيان” الإماراتية