بقلم: المحامي إبراهيم شعبان
أخيرا، وبعد مطالبات ومناشدات، تقرر إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية بالتوالي في الوطن الفلسطيني بشقيه الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة. وأخيرا وبعد مرور ما يقارب أربع دورات انتخابية وفق قانون الإنتخاب، صدر مرسوم يحدد تاريخا لكل من الانتخابات التشريعية في 22/ أيار/2021، والانتخابات الرئاسية في 31/ تموز/ 2021. وأخيرا بدأت اللجنة المركزية للانتخابات بمزاولة عملها الذي رسمه القانون لها. أما انتخابات المجلس الوطني فحديث آخر مؤجل وهو عسير إن لم يكن مستحيلا، رغم رسم تاريخ لإجرائه.
كلمة ” أخيرا ” لم تأت من باب رمي الكلام على عواهنه، لكنها مقصودة تماما. فالانتخاب يجب أن يكون دوريا كل حقبة زمنية منتظمة وفق ما قررها القانون وليس استثناء ولا مصادفة. وتتراوح الدول في تحديد الفترة الزمنية لإجراء الإنتخابات الوطنية ما بين السنتين في حدها الأدنى، ومتوسطها أربع سنوات، وسبع سنوات في حدها الأعلى. وهذا يعني أن الفائز في الانتخابات لا يتولاها أبد الدهر أو طول العمر، سواء أكان فردا أو قائمة. وبغير الدورية يتحول النظام الحاكم إلى نظام تسلطي تحكمي، وتنتفي عنه الصفة الديموقراطية حينئذ.
فالدورية الزمنية تبقي حق الشعب الطبيعي والمشروع في تغيير حكامه ومسئوليه من فترة لأخرى، وتجعل النائب يعمل جاهدا لإعادة انتخابه حينما تنتهي دورته الانتخابية. فالانتخاب وسيلة وليس غاية لتداول السلطة وفق التغيير الحاصل في الظروف المحلية والدولية والإقليمية والداخلية بشتى صعدها.
وعليه فإن إجراء انتخابات عامة لمرة واحدة، ليس أمرا متفقا مع الديموقراطية وحقوق الإنسان، بل ثغرة في بناء المشروعية ويفسح المجال للفساد وانعدام الرقابة والشفافية. فبمجرد أن تنتهي الحقبة الزمنية المخصصة للدورة البرلمانية يفقد النائب والمجلس التشريعي شرعيته تماما. ولا يعوض هذه الشرعية القانونية الشعبية الديموقراطية ما يسمى شرعية ثورية من منظمة تحرير أو مجلس مركزي أو فصائل ولا يملك كل هؤلاء تمديد شرعية اي عضو منتخب أو مجلس تشريعي من ناحية قانونية. فالتعيين السائد في كل هذه الهيئات كوسيلة أوتوقراطية، لا يوازي الانتخاب كوسيلة ديموقراطية، لإسناد السلطة لاختلاف الأمرين كلية من حيث الطبيعة، وفاقد الشيء لا يعطيه.
إذا كانت الدورية الزمنية في جوهر الانتخاب، فإن النزاهة في إجرائها أمر لا يقل أهمية عن الدورية. والسلطة التنفيذية تملك وسائل عدة، وهي قادرة دائما على تشويه الانتخاب، وإفساده من مضمونه الديموقراطي. وحينما قرر المشرع الفلسطيني اعتبار فلسطين دائرة انتخابية واحدة، واعتماد أسلوب التمثيل النسبي لكل فلسطين وألغى الانتخاب الفردي، ووضع نسبة الواحد ونصف كنسبة للعبور الفائز، فقد وضع لبنات النزاهة التنظيمية موضع التنفيذ للانتخاب الفلسطيني.
مع أن هذه الأمور جدلية، ما انفكت على طرحها والاختلاف فيها، العقول البشرية في كل الأماكن والحضارات. لكن هذا الموضوع شابه قضيتان تتصلان بحجز المقاعد لكل من المسيحي الفلسطيني، والأنثى الفلسطينية دون غيرهما. وسيتم مناقشتهما قانونيا بدون انفعالات أو عواطف مسبقة أو لاحقة. فالعبرة دائما وأبدا أن حق الانتخاب ينبع من حق المواطنة بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو اللغة أو العرق.
نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، الذي يعتبر المرجعية الأولى عالميا لحقوق الإنسان في مادته الثانية على أن: ” كل الأشخاض متساوون أمام القانون، ولهم الحقوق والواجبات المثبتة في هذا الإعلان دون تمييز بسبب السلالة أو الجنس أو اللغة أو العقيدة أو أي اعتبار آخر “. ونصت المادة 26 من ميثاق الحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 والذي انضمت إليه دولة فلسطين، وغدا ملزما لها، على أن ” الكل أمام القانون سواء لهم دون أي تمييز حق متساوٍ في حمايته. وينص قانونا على حظر أي تمييز وعلى ضمان الحماية المتساوية لجميع الأشخاص من أي تمييز بسبب العرق أو اللون أو أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو الأصل القومي أو الإجتماعي أو الثروة أو النسب أو غير ذلك من الأسباب “.
أما المادة التاسعة من القانون الأساس الفلسطيني لعام 2003 فقد نصت على ما يلي ” الفلسطينيون أمام القانون والقضاء سواء لا تمييز بينهم بسبب العرق أو الجنس أو اللون أو الدين أو الرأي السياسي أو الإعاقة “.
إيراد النصوص الثلاثة السابقة لم يكن من قبيل التزيّد، ولا من قبيل ملء الفراغ، بل لأن هذه النصوص هي الأسمى والأعلى في موضوع المساواة على الصعيدين الدولي والمحلي بين الأفراد في فلسطين. وما عداها من نصوص يعتبر في حكم الأدنى قانونا مهما كانت اعتباراته وتبريراته حتى لو كانت إنسانية.
بكلام آخر جميع التشريعات العادية والفرعية والقوانين والقرارات بقانون والأعراف والقرارات الإدارية العامة والفردية عليها أن تتقيد بهذه النصوص الثلاثة العليا مهما كان مصدرها، وإن لم تتقيد بها وخالفتها يعتبر البطلان مصيرها نظرا لمخالفتها نصوصا دستورية أو دولية عليا آمرة. وليس بمقبول القول أو التعلل لمخالفتها بناء على اعتبارات مجتمعية أو إنسانية أو أخرى.
وعليه فحجز مقاعد للإخوة المسيحيين أو السامريين، أو اشتراط في المقاعد الأولى الثلاث امرأة، وبعدها في كل أربعة مقاعد امرأة ، مثل هذا الأمر غير دستوري وغير قانوني رغم وجاهة وإنسانية ومجتمعية الاعتبارات والخلفيات التي ينطلق منها. ومهما سيق من تبريرات وتعليلات لهذه الحجوزات فقد فقدت معناها جملة وتفصيلا في ظل اعتبار فلسطين دائرة انتخابية واحدة وإلغاء تقسيمها لدوائر انتخابية متعددة كما كانت سابقا بل تقسيمها لست عشرة منطقة انتخابية من أجل اعتبارات إدارية. أضف أن اعتماد قانون الانتخابات الجديد ألغى النظام المختلط في الانتخابات، وأبقى على التمثيل النسبي بقائمة واحدة مغلقة على صعيد الوطن برمته. وبذا يكون للحزب أن يشكل قائمة انتخابية شريطة مراعاة كوتة المرأة الواردة في قانون الانتخابات العامة لسنة 2007 في مادته الرابعة دون التطرق لموضوع الدين .
وبرأيي لو أجيزت الكوتا المسيحية والنسائية وهي قد أجيزت قانونا، لكان من المقبول إجازة تمثيل المصالح والمهن باعتبار أن هذه المصالح والمهن لها اعتباراتها التي تدافع عنها وتمنع الآخرين من الافتئات عليها. فالتاريخ الانتخابي يخبرنا عن الصفة التمثيلية للأشراف ورجال الدين والعمال والفلاحين والأطباء والمحامين والمهندسين والتجار والحضر والبدو وهلم جرا. سلسلة طويلة من التمييز، لكنها تبعد عن النائب صفة تمثيله للأمة بأكملها.
بتبسيط كبير، يعني وجود دائرة انتخابية واحدة لفلسطين أن من يصوت في مدينة غزة أو رفح لقائمة ما سيضاف صوته مع من صوت لذات القائمة في نابلس والخليل والقدس أو أي مكان آخر في فلسطين سواء أكان في قرية أو مخيم أو بلدة أو مدينة. وهذه الطريقة في التصويت، ستشجع القوائم الجديدة الحديثة على الولوج للمشاركة في الانتخابات الفلسطينية وأن لا تترك الساحة نهبا للحركتين الكبيرتين ( فتح وحماس )، وستشجع الأفراد على التدفق إلى مراكز التصويت لإنجاح قائمتهم، وبخاصة أن نسبة الحسم ليست كبيرة، بل معقولة وهي واحد ونصف بالمائة من مجموع الأصوات الصحيحة بعد أن كانت اثنين بالمائة بموجب القانون القديم لعام 2005. وهذا أمر يمكن أن يكون في متناول الأحزاب الجديدة. وقد تشكل الأحزاب الصغيرة بيضة القبان في تشكيل الحكومة الفلسطينية القادمة.
وعليه فكل حزب يضع قائمة مرشحيه من أشخاص وفق رؤاه الإجتماعية و/ أو الاقتصادية و/ أو السياسية و/أو الأخلاقية، دونما اعتبار لعنصر الدين أو الجغرافيا أو الجنس أو اللون أو أي اعتبار آخر.
وهذا الحزب وفق تشكيلته التي بادر إليها، يتحمل مسؤولية هذه التشكيلة في صندوق الاقتراع. وستتحمل الأحزاب وحدها مسؤولية إيراد اسماء أعضاء قائمتها التي ستطرحها للجمهور لكي ينتخبها بغض النظر عن دينهم أو جنسهم. بمعنى آخر قد تشكل قائمة حزبية وتطرح نفسها بعدد من المسيحيين الفلسطينيين وبعدد أقل من المسلمين الفلسطينيين، وقد يحصل العكس، وجمهور المقترعين هو الذي سيحسم وبخاصة أننا بصدد قوائم مغلقة لا يجوز إعادة تشكيلها من المقترع الفلسطيني ولا إعادة ترتيبها ولا الاختيار من بين أعضائها والمفاضلة بينهم، كما هو حاصل في الأردن.
وبالتالي يبدو لي أن ما قرره قانون الإنتخابات في فقرته الخامسة من مادته الرابعة لسنة 2007 بشأن تخصيص عدد من المقاعد في المجلس التشريعي للمواطنين المسيحيين عبر مرسوم رئاسي، ليس في محله اليوم بعد تبني الدائرة الواحدة لفلسطين والتمثيل النسبي الكامل فيها، بل غدا غير شرعي وغير دستوري.
يبقى الموضوع السياسي الذي كان عائقا أمام الترشيح للمجلس التشريعي. فقد كان القانون القديم في المادة 36 والمادة 45 يشترط على المرشح أن يلتزم بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، وأن يعلن موافقته على إعلان الاستقلال في الجزائر عام 1988، وبأحكام القانون الأساس لعام 2003. أما القانون الجديد فقد اقتصر على التزام المرشح بأحكام القانون الأساس لعام 2003 وقانون الانتخابات العامة وتعديلاته. وبالتالي حل عقدة انتخابية كانت ستشكل عائقا للبعض للولوج للساحة الانتخابية.
عقبة أخرى زالت في الشأن الإنتخابي، ألا وهي قضية التزامن في الانتخابات بين الشأن الرئاسي والشأن التشريعي. فقد كان القانون القديم يقيم تزامنا بين الأمرين ويوجب إجراؤهما في يوم واحد. لكن القانون الجديد أجاز إجراؤهما بالتوالي وفي موعدين متلاحقين. وعلى هذا النحو صدر مرسوم الانتخابات حينما ضرب موعدين مختلفين واحد للإنتخابات التشريعية والآخر للرئاسية.
الحق في الانتخاب حق سياسي رديف للحق المدني بإطار إنساني، يتمثل في الانتخاب الحر والترشيح لتولي الوظائف العامة وتداول السلطة وإنجاز حق تقرير المصير، من اجل رفعة الإنسان وتقدمه ، وإقامة سيادة القانون واتخاذ موقع بين دول العالم المتمدين المتحضر بعد عزوف طويل!