المحامي إبراهيم شعبان
تتزايد وتيرة الإصابات بفيروس الكورونا في المجتمع الفلسطيني وما ينتج عنها من كوارث صحية بين وفاة وعجز، بينما بدأ المجتمع الإسرائيلي ينحو نحو الخروج من هذه الكارثة الصحية. وبغض النظر عن جميع عوامل وباء الكورونا واسبابه، والتي هي ليست محل نقاش هنا، يتساءل المرء المراقب المحايد، لماذا لم تقم الدولة المحتلة الإسرائيلية بواجبها الأولي الذي رسمته مواثيق جنيف لعام 1949 ولاهاي لعام 1907، وقامت بتطعيم الشعب الفلسطيني المحتل سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة؟ ولماذا لم تقم السلطة الفلسطينية بمطالبة المحتل الإسرائيلي بذلك الالتزام القانوني الملقى على عاتق الدولة المحتلة؟
ابتداء، ليس هناك من حجة قانونية تعفي السلطة الإسرائيلية المحتلة من التزامها القانوني بتقديم الرعاية الصحية للشعب الفلسطيني المحتل. فقانون جنيف ومعاهدته الرابعة لعام 1949 احتوت نصوصا قاطعة الدلالة على التزام الدولة المحتلة بالرعاية الصحية للشعب المحتل، وهو يشكل استمرارا لما قررته المادة 23 من اتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907 والتي غدت جزءا من القانون الدولي العرفي، والقانون الدولي الإنساني بعامة. بل إن ميثاق الحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 وميثاق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966 ايضا، والتي انضمت إليهما إسرائيل يلزمان إسرائيل بتقديم اللقاح للشعب الفلسطيني الذي هو تحت الهيمنة والسلطة الإسرائيلية ولو زعم أنها مدنية.
فقد قررت المادة 55 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 على أن ” من واجب دولة الاحتلال أن تعمل باقصى ما تسمح به وسائلها، على تزويد السكان بالمؤن الغذائية والإمدادات الطبية ، ومن واجبها على الأخص أن تستورد ما يلزم من الأغذية والمهمات الطبية وغيرها إذا كانت موارد الأراضي المحتلة غير كافية “. و” للدولة الحامية أن تتحقق دون أي عائق في اي وقت من حالة إمدادات الأغذية والأدوية في الأراضي المحتلة “.
وأردفت المادة 56 من ذات الاتفاقية على أن ” من واجب دولة الاحتلال أن تعمل بأقصى ما تسمح به وسائلها وبمعاونة السلطات الوطنية والمحلية على صيانة المنشآت والخدمات الطبية والمستشفيات وكذلك الصحة العامة والشروط الصحية في الأراصي المحتلة، وذلك بوجه خاص عن طريق اعتماد وتطبيق التدابير الوقائية اللازمة لمكافحة انتشار الأمراض المعدية والأوبئة، ويسمح لجميع أفراد الخدمات الطبية بكل فئاتهم بأداء مهامهم “.
واضح أن الروح التشريعية السائدة في النصين السابقين والتي ترجمت لمفردات قوية لا تترك مجالا للنقاش والهروب من المسؤولية، هي كفالة حماية صحة المدنيين المحميين تحت الاحتلال بموجب قانون الحرب لأقصى درجة، وفي هذه الحالة هم المدنيون الفلسطينيون المحميون. ويتمثل الالتزام الإسرائيلي المطلق في وضع جميع وسائل السلطة المحتلة الإسرائيلية الضرورية للحياة ، وبدون تحديد، تحت تصرف الأفراد المدنيين الفلسطينيين المحميين، وهذا الاصطلاح يشمل المواطنين العاديين وقوات الأمن الفلسطينية. وليس مهما أن تكون هذه الحاجات الضرورية للحياة والمواد، من إنتاج سلطة الاحتلال أو مستوردة أو موهوبة لها من جهة أخرى. ويجب على سلطة الاحتلال أن تؤمن هذه الحاجات للشعب المحتل ، وتسهل المواصلات ونقلها. بل على سلطة الاحتلال أن تستورد لصالح الشعب المحتل لقاحات الأوبئة حينما تكون مصادر الإقليم المحتل غير كافية أو غير متوفرة وأن توفر الخدمات الطبية المناسبة لهم. وقد استوحيت ومضات هاتين القاعدتين القانونيتين من وحي ما جرى من أحداث دموية ومؤلمة للأفراد اثناء الحرب العالمية الثانية.
الغريب والعجيب بل والمحزن، أننا نأينا بأنفسنا كسلطة أو كدولة فلسطينية، عن مطالبة السلطة المحتلة الإسرائيلية، بالتزامها بموجب القانون الدولي الإنساني، بل أعطيناها عذرا ومبررا لعدم قيامها بواجبها الإنساني الصريح والمطلق الذي نصت عليه المادتان 55 و56 من اتفاقية جنيف الرابعة تجاه الشعب الفلسطيني المدني المحمي المحتل.
والأسوأ أن السلطة الإسرائيلية المحتلة نأت بنفسها كذلك عن القيام بواجبها كسلطة محتلة رغم وجود أوسلو وتبعاته. والمثير للشفقة أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر نأت بنفسها عن القيام بدورها الإنساني الأول الذي تزعم أنها نذرت نفسها له وكرست كيانها وميثاقها له، عندما لم تطلب من السلطة المحتلة الإسرائيلية شمول التطعيم لأبناء الشعب الفلسطيني المحتل المحمي بل وتجاهلت ذلك للأسف الشديد رغبة منها في عدم تحمل مسؤولياتها ومجاملة للمحتل الإسرائيلي.
يجب أن يعلم الفلسطيني الرسمي وغير الرسمي، وكذلك إلإسرائيلي حكومة وأفرادا، أن ميثاق جنيف الرابع هو الأول والأسمى والسائد قانونا في تنظيم علاقات السلطة المحتلة بالإقليم المحتل من جميع جوانبه سواء أحببنا أم كرهنا، سواء كنا دولة أو سلطة.. سواء وقعنا اتفاقيات أوسلو أم لم نوقع.. سواء كنا ضعفاء أم أقوياء.. وسواء قبلنا ام لم نقبل باي ترتيب. فالمادة 47 من اتفاقية جنيف الرابعة واضحة وصريحة وقاطعة في هذا الأمر وهي المرجع الأساسي لهذا الوضع الإستثنائي بل هي المفتاح القانوني الرئيس للإقليم المحتل والتغيرات الحاصلة عليه. فالأراضي الفلسطينية المكونة من قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية هي أراض محتلة بشكل قاطع وعلى ذلك يجمع جمهور الفقهاء والمحاكم الدولية.
المادة 47 من اتفاقية جنيف الرابعة الهامة والرئيسة البارزة المحورية المطلقة الضامنة لحماية الشعب المدني المحتل صاحب السيادة من سطوة الاحتلال وقوته بأي شكل من الأشكال، حينما نصت على أن ” لا يحرم الأشخاص المحميون الذين يوجدون في اي إقليم محتل بأي حال ولا باية كيفية من الانتفاع بهذه الاتفاقية سواء بسبب تغيير يطرأ نتيجة لاحتلال الأراضي على مستوى الإقليم المذكور أو في حكومته، أو بسبب اي اتفاق يعقد بين سلطات الإقليم المحتل ودولة الإحتلال، أو كذلك بسبب قيام هذه الدولة بضم كل أو جزء من الأراضي المحتلة “.
السؤال الذي بدأنا به هذه المقالة، لماذا هذه الإنتقائية في القانون الدولي ومواثيقه، ولماذا نميز بين ميثاق وآخر وعلى اي أساس؟ وهل يمكن قبول هذه التجزئة الفجة وغير المبررة والتي هي ليست في صالح الفلسطينين. وهل لدينا المعرفة الكافية بما نصت عليه المواثيق الدولية وبخاصة بما يتصل بوضعنا الإحتلالي؟ لماذا كبيرة يجب أن نسألها لأنفسنا. هذا حقل نسبيا مجهول للكثيرين من القانونيين.
بكلام آخر، لقد بذلت السلطة ومنظمات المجتمع المدني جهدا رفيعا من أجل مقاضاة الجنود الإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية وفق ميثاق روما لعام 1998، بينما هي فرطت في حق الفلسطينيين في الحماية الصحية وبالتلقيح من خلال اتفاقية جنيف الرابعة. هل هو الخوف من تاييد وجهة النظر القائلة بأن فلسطين ليست دولة وبالتالي آثرت عدم المطالبة لتجنب إثاره الشكوك حول هذه القضية؟ هل هو الخوف من تبعات أوسلو، ففضلنا وآثرنا تجنب الموضوع وعدم الالتجاء لأي محفل دولي للمطالبة بحقنا واكتفينا بالاحاديث الثنائية وقصرناها على ذلك.
الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية أراض محتلة بغض النظر عن الإطار القانوني المهيمن عليها والأشكال القانونية السائدة، والإتفاقات المعقودة مع الإحتلال وغيره، ويسري عليها قانون الإحتلال الحربي سواء أكان قانون جنيف أو لاهاي. ولا تستطيع السلطة المحتلة أن تتخلى عن التزامها الدولي بتقديم اللقاحات للشعب الفلسطيني وعلينا أن نطالبها بالإيفاء بالتزامها. ولا نستطيع أن نكون انتقائيين وحرين في مواثيق القانون الدولي التي انضممنا إليها، فضلا أنها لمصلحتنا وأربعة عيون ترى أكثر وأحسن من عينين اثنتين!