بقلم: رشاد ابو داود
عندما يصبح الموت أمراً مألوفاً تصبح الحياة أمراً استثنائياً. وقد أصبحا كذلك في وقتنا الحاضر. فهو في كل مكان وليس قي مكان محدد.. في الشارع، في المول، في المخبز، في المتجر، في التكسي، في الباص. قد يكون مع البقال، مع الصراف، مع رائحة الفول والفلافل، وربما..معك.
ليس بامكانك أن تهرب منه، ولا أن تهرب اليه من موت آخر. انه القدر المحتوم. لكن لكل موت سبب. والسبب اليوم هو الكورونا. لا تعرف متى تصاب ومِن مَن وكيف. ما يحيرك أنك كلما قرأت عن هذا الوباء اللعين، ازددت جهلاً به. كيف جاء، من أين، متى ينتهي ؟!
كل ما هو مؤكد أن زملاء واصدقاء أحباء لنا نصحو على خبر وفاة احدهم «متاثراً بفيروس كورونا»، نودعهم «عن بعد» ونبكيهم من حشاشة القلب. فقدنا خالد الزبيدي الصحافي خبير الاقتصاد الواثق المشاكس المنتمي لعلمه ومهنيته. وفقدنا الصديق د. نبيل الشريف الذي زاملته في «الدستور» عدة سنوات، هو رئيس التحرير وأنا مدير التحرير العام فيها قبل أن يصبح وزيراً للاعلام ثم سفيراً ثم عضواً في مجلس الأعيان.
وفقدنا جريس سماوي الشاعر المرهف الذي ظل شاعراً حتى وهو وزير للثقافة. ابن الفحيص، هذه الحديقة التي تبدو وكأنها هبطت من الأمجاد السماوية لتقيم على الأرض صلوات المسيح الناصري ابن بيت لحم. وفقدنا، أخيراً وليس آخراً، محمد كعوش الصحافي منذ أكثر من نصف قرن، المهني المحترف، الرجل المحترم. وغيرهم كثر كانوا – ما أصعب كلمة كانوا – بيننا ومعنا.
كانوا يرحلون واحداً واحداً فكان الألم يعتصرنا جرعة جرعة. لكن الموت استشرس. هاجمنا دفعة واحدة في مستشفى السلط فخطف من خطف من أهلنا.سال دمهم في كل شارع اردني. أصابنا بما هو أقسى من الكورونا علينا «، انه الفقد وهل على الانسان اقسى من الفقد؟
«انقطاع الأكسجين» عن المرضى سبب تافه للموت. ولا نريد ان نخوض من كان السبب لنترك للتحقيق مجراه. لكننا كنا نرى المستشفى عندما نذهب «لنتنفس» في شارع الستين المطل عليه، فكيف لن تخنقنا ذكرى من أوقف أنفاسهم «انقطاع الأكسجين؟!
كيف تنسى السلط ضحاياها، وكيف ننسى السلط مدينتنا التي تذكرنا بمدن عربية يجلس فيها التاريخ في ذات المكان الأخضر بين الصخر، جبل يتلوه جبلٌ، شجرٌ يعانق شجراً، أناس يحلو لك أن تسمِّي كل واحد فيهم «الطيِّب»، بيوت تلتصق ببعضها بحميمية دافئة، لكأنها لحظة أبدية منذ أول الخلق إلى آخر ما ليس له آخر، العشق.
تعبر الشوارع التي ظلت ضيقة فتتسع رئتاك، تتمعن بوجوه الناس فتتأكد أن الدنيا بخير، تختار عجوزاً ترتسم على وجهه تجاعيد الزمن ليحدثك عن الزمن الذي مضى، تتمنى لو تبقى معه سنة وفي الزمن سنواته الخضراء، تكاد تقبِّل يده التي زرعت ذات شباب تلك الأرض التي يشير إليها، لكن أصابعه تشير إلى ما هو أبعد من هناك، من تلك الجبال ترى أضواء أريحا وجبال نابلس ونور القدس.
سامحينا يا سلط..انه الموت. انه القضاء و القدر.
عن “الدستور” الأردنية