بقلم: هاني المصري
“لماذا كل ردود الأفعال هذه، فما حدث مع نزار بنات يحدث في أميركا”. هذا ما قاله مسؤول فتحاوي كبير، وللإجابة عن هذا التساؤل نورد ما يأتي:
أولًا: كان نزار شجاعًا وجريئًا في التعبير عن رأيه، ما عرّضه إلى ملاحقات وتهديدات بالضرب والقتل، واعتقالات وصلت إلى ثمانية لم يجد القضاة خلالها ما يستدعي محاكمته، فما يقوم به ممارسة لحقه في التعبير عن رأيه، وأي حدّة أو مبالغة في ممارسة هذا الحق تعدّ جنحة صغيرة لا تستحق العقاب، فهذا حوّله إلى بطل، فضلًا عن إطلاق الرصاص على بيته منذ أكثر من شهرين وترويع زوجته وأطفاله الخمسة، أكبرهم طالبة في الثانوية العامة، بينما لم يكن متواجدًا في البيت.
ثانيًا: إن ما يقوله نزار يصبّ في مجمله في أن السلطة فاشلة وعاجزة ومستبدة وفاسدة وتابعة، وتتفق عليه في الجوهر الغالبية من الشعب الفلسطيني، لدرجة يمكن القول إن الرئيس وقادة السلطة يتفقون أو اتفقوا مع بعض أو معظم ما تحدث عنه نزار، مع وضع الحدة والتطرف والأسلوب جانبًا فهو مختلف عليه، خصوصًا تعميمه لأخطاء وخطايا السلطة الآن على أخطاء الثورة في مرحلة النهوض، وهذا غير صحيح، فالثورة كانت صورتها إيجابية تظللها أخطاء وسلبيات، بينما الآن السلطة سوداء يتخللها بعض البياض، بل إن السلطة في مرحلة الشهيد أبو عمار تختلف جوهريًا رغم كل الملاحظات عليها عن السلطة ما بعده.
ألم يقل الرئيس إن السلطة بلا سلطة، وإننا نعيش تحت بساطير الاحتلال، لدرجة هدد أكثر من مرة بتسليم مفاتيح السلطة إلى صاحبها (الاحتلال)، وذهب المرحوم صائب عريقات إلى أكثر من ذلك، إلى حد القول إن منسق الشؤون المدنية في وزارة الحرب الإسرائيلية هو الرئيس الفعلي للسلطة، إضافة إلى ما قاله محمد اشتية قبل أن يصبح رئيسًا للحكومة بأن السلطة مجرد بلدية كبيرة؟
كما أكدت منظمة التحرير في قرارات صادرة عن كل مؤسساتها، وخاصة المجلس الوطني، بأن اتفاق أوسلو وصل إلى طريق مسدود، وهناك ضرورة لإعادة النظر في العلاقات والاتفاقيات التي عقدتها المنظمة مع إسرائيل.
واتخذ الرئيس قرارًا في أيار 2020 يقضي بالتحلل من الاتفاقات، وعاد عنه بعد ستة أشهر بتصريح من وزير الشؤون المدنية، في خروج عن الإجماع الوطني الذي تكرّس في اجتماعات الأمناء العامين، وبلعت الفصائل، خصوصًا “حماس”، هذا القرار الخطير بذريعة تواصل التفاهمات، وصولًا إلى الانتخابات.
كما سبق الجريمة استكمال هيمنة السلطة التنفيذية وسيطرتها، وخصوصًا الرئيس، على السلطة القضائية، عبر القوانين التي أقرّها قبل أيام من صدور مرسوم الانتخابات، ثم لم يُعدّل قانون الانتخابات رغم مطالبة حوار القاهرة بالإجماع بإجراء عدد من التعديلات الضرورية لعدم المساس بحرية الانتخابات ونزاهتها. وبعد ذلك، أجّل الرئيس الانتخابات إلى أجل غير مسمى، أي إلغاؤها، بشكل انفرادي، بحجة رفض الاحتلال إجراء الانتخابات في القدس، مع أن هذا الرفض كان معروفًا، وكان من المفترض الاستعداد له عبر وضع بدائل لخوضها في القدس رغمًا عن الاحتلال.
وبعد إلغاء الانتخابات، جرى التغوّل على الحقوق والحريات، لدرجة اعتقال الكثير من الأشخاص وتعذيبهم على خلفية حرية الرأي، وبعضهم من المرشحين للانتخابات مثل نزار الذي كان مطاردًا.
كما شهدت مرحلة ما بعد إلغاء الانتخابات معركة القدس وسيف القدس، وما بعدهما، ولم تكن السلطة والقيادة بمستوى التحديات، وأكثر من ذلك، وبدلًا من البناء على الإنجازات، وأهمها الوحدة الشعبية، جرى تعميق الانقسام، من خلال طرح ضرورة إشراف السلطة غير الموجودة في غزة على عملية إعادة الإعمار، بدلًا من تقديم مبادرة لإنهاء الانقسام، وتشكيل حكومة وحدة، وإعادة بناء المنظمة، وإجراء الانتخابات على كل المستويات، على أساس برنامج وطني يجسّد القواسم المشتركة.
ونضيف إلى ذلك فضيحة لقاح فايزر، وانتشار الفساد، لدرجة أن 84% من الفلسطينيين يعتقدون بوجود فساد في مؤسسات السلطة وفق استطلاع المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية الذي صدر منتصف هذا الشهر.
ثالثًا: إن عملية القتل جرت فجرًا بعيد الثالثة، في منطقة تقع تحت سيطرة الاحتلال الكاملة، ما يعني أن تنسيقًا قد جرى يسمح بدخول عشرات من أفراد الأمن المسلحين الذين استخدموا أساليب الاقتحام والترويع والضرب الشبيهة بما تقوم به قوات الاحتلال، وقُتِل نزار خلال مدة قصيرة لا تتجاوز الساعتين من لحظة اعتقاله.
رابعًا: إن إخراج السلطة للجريمة ساعد كثيرًا في ردود الفعل، بدءًا من تصريح محافظ الخليل بأن نزار مات بعد اعتقاله، من دون إشارة إلى التعذيب الذي تسبب في القتل، ومن دون تحويل المنفذين للتحقيق. وزاد الطين بلة أن رئيس الحكومة، وزير الداخلية، شكل لجنة تحقيق حكومية من دون تحقيق جنائي، ما أدى إلى مقاطعة المشاركة فيها من كل من: نقابة المحامين، ومؤسسة الحق والهيئة المستقلة اللتين قررتا القيام بتحقيق مستقل، وانسحاب الطبيب ممثل العائلة. واللافت بأن الرئيس ورئيس الحكومة وقادة السلطة لم يقدموا واجب العزاء لزوجة الشهيد وعائلته حتى كتابة هذه السطور.
أوحى كل ما سبق إلى أنّ الجريمة مدبرة، وأنا أستبعد ذلك، وأنها استهدفت كي وعي المعارضة بكل مستوياتها، بأن مصير نزار ينتظرها، وما جرى بعد ذلك من قمع للمتظاهرين والصحافيين من أفراد أمن بالزي المدني وأمام الشرطة وعدسات التصوير ومنع تصوير ما يحدث؛ يدل على أن هناك جرائم ترتكب يراد إخفاؤها.
ما ميز ردة فعل السلطة تصويرها بأن ما يحدث فتنة وانقلاب وخدمة لأجندات خارجية، وليست ردة فعل طبيعية غاضبة، حتى لو وصلت إلى المطالبة بإسقاط النظام ورحيل الرئيس، فمن حق كل واحد أن يرى التغيير الشامل هو طريق الخلاص الوطني، شرط ألا يستخدم العنف أو الانقلاب، وألا يدعو إلى ذلك. والأهم، أن لا أحد يستطيع ذلك، ليس بسبب قوة السلطة السياسية والشعبية والأمنية والعسكرية فقط، وإنما جراء وجود الاحتلال صاحب السيادة في الضفة المحتلة، ولا يمكن إسقاط السلطة ولا تغييرها إلا عبر الاصطدام معه، وإحداث تغيير جوهري في موازين القوى، وهذا لم يحن وقته بعد، لا سيما بعدما أعلن الاحتلال بعد معركة القدس عن سياسة دعم السلطة بصورة أكبر، ونقد الاحتلال نفسه نقدًا ذاتيًا على التراخي في هذه السياسة.
إنّ أخطر ما يحدث زجّ حركة فتح في المواجهة مع الشعب الغاضب، وعدم التمييز بين الأجهزة و”فتح”، وتصوير وكأن السلطة تواجه خطر السقوط على أيدي مؤامرة ومتآمرين، مع أن لا علاقة لـ”فتح” بما تقوم به السلطة من قمع وفساد وتبعية، رغم أن السلطة تحكم ولا تستطيع أن تحكم إلا باسم “فتح” وتاريخها ونضالها وتضحياتها، ولكن “فتح” لا تحكم فعلًا، وعليها أن تعي ما يُخطط لها، وتقف كما فعل الكثير من أبنائها ضد جريمة اغتيال نزار بنات، وتطالب بمحاسبة المجرمين، وليس المتظاهرين، وكل من تسبب في وصولنا إلى هذا الحضيض، ومعالجة أسبابه.
نعم، هناك، داخليًا وخارجيًا، من يوظف ما حدث لصالحه، والرد عليه لا يكون بمنحه مزيدًا من المبررات والحيثيات، بل بنزعها عنه. وهناك من يعتقد أن لحظة التغيير الحاسم بالوضع الفلسطيني قد حانت، ويستعجل قطف الثمار، ويطالب بحل السلطة وإسقاط النظام، متجاهلًا طبيعة المرحلة كمرحلة تحرر وطني وموازين القوى، وأن العدو الذي يستهدف الجميع هو الاحتلال، ولا صوت يعلو على مواجهة الاحتلال، من دون أن يمنع ذلك، بل يفترض محاسبة الفاسدين والقمعيين وأعوانهم، وكل من يريد بقاء الوضع الفلسطيني على حاله، لأنه أتاح لهم نفوذًا وثروة ومناصب لم يحلموا بها، ولن يحصلوا عليها إذا كانت هناك وحدة وطنية كفاحية وحكم رشيد.
لا طريق للتغيير سوى الوسائل السلمية والديمقراطية، وفي إطار الوحدة والوفاق الوطني والشراكة، والأهم على أساس مقاومة الاحتلال، واحترام حقوق الإنسان وحرياته في الضفة الغربية وقطاع غزة، فأي اعتداء على الإنسان – أغلى ما نملك – جريمة مرفوضة، ويجب أن يحاسب مرتكبها، بغض النظر عمن كان، ومن يمثل سلطة الضفة أو سلطة غزة. فالتعددية والمنافسة والتنوع والتغيير تحكمها صناديق الاقتراع والوحدة والمصلحة الوطنية، وليست استجابة لمصالح فصائل أو أشخاص أو أجندات داخلية أو خارجية.
هل تتعظ السلطة وتوافق على تشكيل لجنة تحقيق مستقلة وفتح تحقيق جنائي؟ وهل يحوّل الرئيس دعوته للحوار الوطني إلى دعوة جادة بإرفاقها بمبادرة توفر أساسًا لتحقيق الوحدة؟ هذا نداء بانتظار الإجابة، ولا يجب انتظارها، بل العمل والضغط والكفاح لتحقيقها.
إن استمرار الانقسام وصفة للتدمير الذاتي والفوضى والفلتان الأمني وتعددية السلطات ومصادرة القرار، ولا يقود إلى التغيير والتحرير والقيادة والتمثيل. فهل ندرك ذلك وأن لا إمكانية للتفرد والإقصاء، وأن طريق التخوين والتكفير والإقصاء تؤدي إلى التهلكة وليس إلى النجاة؟
ولمن يقول إن إسقاط النظام غير ممكن، ويجب أن تكتفي المطالبة بالإصلاح، نقول له: إن المطلوب تغيير السلطة لا إسقاطها ولا حلها، مع العلم أن النظام القائم أقفل كل أبواب الإصلاح والتغيير بإغلاق بوابات الانتخابات والوفاق وإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وفرّغ كل مؤسسات السلطة والمنظمة من دورها، حتى لم يعد هناك سوى طريق واحد للتغيير، وهو بلورة جبهة أو تيار شعبي واسع على أساس وطني وشراكة حقيقية يضم كل الحريصين على القضية والديمقراطية وحقوق الإنسان من مختلف الفئات والفصائل والتجمعات، ليمارسوا مقاومة الاحتلال كطريق أساسي للتغيير، وضغطًا سياسيًا وجماهيريًا وقانونيًا متراكمًا ومتصاعدًا على النظام السياسي حتى يتم فتح أبواب التغيير الممكن السلمي والديمقراطي والوحدوي على طريق التغيير الشامل.
رحم الله أبو كفاح، فهو كان في حياته رجلًا شجاعًا وبطلًا، وتحوّل بعد اغتياله بسبب غباء وتصرفات خصومه إلى رمز، فهل يوفر هذا فرصة للإنقاذ؟
هذا ما يتمناه ويأمله ونتمناه ونأمله.