القدس الكبرى / المشروع الصهيونِي الصامت

يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو منذ وصوله إلى السلطة، ومعه المجموعات والتشكيلات السياسية المتطرفة، استغلال الوضع الفلسطيني الهش والممزق، وتحويله باتجاه المصلحة الإسرائيلية الآنية والبعيدة. في كل مرة يهدد، من خلال اجتماع مكتبه المصغر، بالتشديد ضد الفلسطينيين في كل شيء، بما في ذلك استعمال الرصاص الحي والعقوبات العمياء والبدائية والنازية، بحرق وتهديم بيوت المشاركين في العصيان والانتفاضة، إضافة إلى الإعدام الميداني الذي كان واحدا من سمات هذه الانتفاضة. مشكلة نتنياهو ومكتبه المصغر والحركة الصهيونية عبر العالم، أنهم ينسون الأسباب الجوهرية لكل ما يحدث اليوم. الاحتلال أولا وأخيرا، والرغبة المحمومة الإسرائيلية لتغيير الوضع القائم وإحلال شيء آخر لا يمكن للفلسطينيين أن يسكتوا عنه. طبيعي أن تقوم الانتفاضات، وطبيعي أيضا أن يستعمل الفلسطيني ما يجده أمامه، في ظل غياب كل وسائل الدفاع، بما في ذلك جسده.
معضلة الفلسطيني اليوم هي سلطة فلسطينية أريد لها أن تكون الراعي الرسمي للمصالح الإسرائيلية والشرطي المسلط على الفلسطيني من ذويه، لكن هذه السلطة ترفض أن تكون تابعة للمؤسسة القمعية، ومحكومة بكل ضوابط أوسلو، أمام قوة نارية قمعية إسرائيلية لا تعترف في النهاية إلا بالقوة ولا شيء آخر إلا القوة، لأن الذي يريد السلام لا يعتدي على وضع هش بالأساس. ماذا يفعل الفلسطيني الذي يريد أن يحافظ على هذه النواة، نواة مشروع الدولة ومقاومة الغطرسة الإسرائيلية؟ عندما يصل اليأس وفقد الأمل في المسار السلمي كله، يحدث ما حدث، وقد يحدث أكثر.
الذي يكتفي اليوم بالسكين ويعرف نفسه سلفا أنه سيموت لا محالة، قد يعود إلى الحل الأخير بأن يحمل السلاح الناري، ويجعل من جسده قنبلة موقوتة. ألم تدرك إسرائيل، التي تريد أن تظهر أمام العالم كضحية أبدية، أن ما تقوم به اليوم وما قامت به، لن يزيد الوضع إلا تأججا؟ الكيان الصهيوني الإسرائيلي مثل بقية الاستعمارات في العالم، لا تتعلم، كما يقول الجنرال جياب، صاحب انتصار ديان بيان فو. حل الدولتين يقتضي وجود طرفين مؤمنين به؟
ما نراه اليوم ونسمع، لا ينبئ بأي أفق إلا المزيد من الدم.
داخل هذا المشهد الدموي، تبدو إسرائيل، كالعادة، ضحية المجموعات الفلسطينية المتطرفة. ديمقراطية تواجه بربرية بدائية تستعمل السكين لقتل المواطنين العزل، في حالة دفاع عن النفس ضد إرهاب السكاكين. ولم نسمع حتى في القنوات الأجنبية المعروفة بموضوعيتها؟ شيئا عن إرهاب الدولة والتصفيات الجسدية الميدانية، مع الفيديوهات التي يمكن التأكد من حقيقتها، شاهد حي على هذه البشاعة.
إعادة إنتاج حقيقية للجرائم النازية والعدمية التي لا تعطي أية قيمة للإنسان ولا لعمره، فتجعل من شكله ولغته ودينه وقناعاته، الضحية المثلى. في ظل وضع مثل هذا، تتفادى إسرائيل وحلفاؤها الخوض في شيء جوهري اسمه الاحتلال والظلم اليومي، ما يمنحها كارت بلانش في أن تقتل وتبيد، ولكن إلى متى؟ الفلسطيني الذي يقتل في مشهدية عالمية صامتة تتألم لقط داسته سيارة ولا تحرك ساكنا لإعدام طفلة على الملأ، سينبت في مكانه أكثر من مئة فلسطيني آخر، حاملين ليس فقط الهوية الفلسطينية الأبدية، ولكن أيضا هوية الدم والرغبة في السير في درب الشهادة. وكأننا أمام ملحمة تراجيدية من الطراز الإغريقي، حيث لا قوة، ولا حتى قوة الآلهة، تستطيع أن تغير في المسارات. كل شيء مسطر سلفا. القاتل يزداد ضراوة، والمقتول لا يسلم في حقه في الحياة. والمنشدون على الأطراف يحفظون الذاكرة ويعمقون جنائزية حرب لن تنتهي كما يشتهيها الظالم.
كان يمكن تصور مستقبل آخر لو أن إسرائيل الديمقراطية مع شعبها، البدائية مع شعب تحتل أرضه وتاريخه وبرتقاله، لكن التطرف لن يجلب إلا المزيد من التطرف. والرعب لن ينجب من رحمه إلا المزيد من الرعب، وتصبح الدولة الفلسطينية على هامش الأحداث لأنها أضعِفت لدرجة أن وُضعت على حافتين،
إما الإصرار على الدفاع عن حق شعبها في الحياة، في حدود 1967 وحتى أقل منها ميدانيا، وإما الصمت على جرائم المؤسسة العسكرية الإسرائيلية والعمالة، وهو ما لا ترضاه لنفسها مطلقا ولا لشعبها. هذا الإضعاف تتحمل فيه إسرائيل القسط الأكبر. إذا تخلصت من محمود عباس كما تعلن في خطاباتها إذ اعتبرته عدوها الأساسي، كما فعلت مع عرفات، القادم لن يكون إلا صورة عن تطرف إسرائيل، لأن قاعدته المجروحة لن تقبل إلا بحد معين وإلا الانتفاضة والمزيد من الحرائق والدم، في وضع دولي محكوم بمنطق القوة والعمى والخوف من التاريخ، ولا شيء غيره.
الأمر الذي أدى بإسرائيل إلى التمادي في إجرامها. حرق ودهس وقتل وترك الجريح النازف حتى ولو كان طفلا، يموت أمام العابرين، ممارسات أصبحت أكثر من عادية. ماذا تركت إسرائيل للفاشيات العالمية السابقة لها؟ لكن هذا كله على عنفه، لا يشكل إلا الوجه الظاهر للوضع. أما ما لم يظهر، فهو ميكيافلية حقيقية تبدأ بوضع الفلسطيني ومقاومته في خانة الإرهاب، ثم بحصار مدن الضفة والقدس وتمزيقها داخليا وتحويلها إلى محتشدات حقيقية، لا يحق فيها للفلسطيني أن يخرج أو يسير بقليل من الحرية، وتضييق الخناق عليه، وتحويل القدس الشرقية إلى شوارع محتلة كليا في انتظار إدخالها ضمن المشروع الاستعماري الواسع للقدس الكبرى. الوضع العمراني والأمني الذي خلقته إسرائيل في العشرين سنة الأخيرة يقود إلى ذلك. ثم تتعقد العملية بإنهاء العمل بالتصاريح للسكان الأصليين، وسحب حتى الجنسية الإسرائيلية من الفلسطينيين الذين سيجدون أنفسهم في مواجهة 48 جديدة، مدفوعين نحو مناف جديدة وفصل آخر من التشرد، في ظل وضع دولي خسر إنسانيته ولا يقيسها إلا بمنطق القوي، وخسر شرعيته بكيله بعدة مكاييل، حسب العرق والجنس والدين، وفي ظل وضع عربي من دون آفاق، يعيش حاضره كالمحكوم عليه بالإعدام مع وقف التنفيذ. ستتم بعدها عسكرة مدينة القدس الشرقية والتحكم في كل شرايينها الأساسية، مع اللجوء إلى تقسيم الأقصى بحيث سيصبح جزءا من الممارسة الدينية للهيكليين والممارسة الإسلامية على حد سواء. مع إشراف عسكري إسرائيلي، على نمط الحرم الإبراهيمي في الخليل، وربما أكثر تشددا، حيث المكان الواحد ممزق دينيا ومفتت، جزء منه إسلامي وآخر يهودي. طبعا ليس الدين إلا واجهة معلنة لاستيطان بغيض. إذ لا شيء، من الناحية الدينية البحتة، يمنع من إيجاد صيغ دينية تحترم فيها حرمة المكان وقدسيته، فيجد اليهودي والمسيحي جزءا من مكانه الروحي عند المسلمين؟ ويجد المسلم أيضا حقه في الوقوف على حائط البراق الذي يشكل جزءا من ميراثه الديني المرتبط بإسراء النبي الأكرم، وصلاته قبل معراجه السماوي. هناك ذاكرة دينية متعددة مشتركة، من الصعب تسييرها مع استيطان بغيض لا يعترف للفلسطيني بأي حق. ما يحدث هو اعتداء صريح بالقوة وممارسة احتلالية وليس دينية. مما دفع بفرنسا، قبل فترة وجيزة، إلى طرح فكرة وضع الحرم القدسي تحت حماية دولية في ظل الغطرسة الصهيونية. طبعا كعادتها، لم تقبل إسرائيل بهذا واستدعت السفير الفرنسي، مع أن اتفاقيات أوسلو، التي نتساءل اليوم هل بقي شيء منها بعد أن أفرغتها إسرائيل من كل محتواها التحرري، تخول هذا الحق للســلطة الفلسطينية وليس لغيرها.
يتضح جليا، كل يوم أكثر، أن الأهم هو إنجاز المشروع المتطرف للدولة اليهودية الصافية عرقيا ودينيا، وهو مبتغى نتنياهو الذي لا يستطيع الشيء الكثير، حتى ولو أراد، مع الأطروحات الأكثر تطرفا للقوى السياسية المساندة له. الذي يردد في كل مناسبة «القدس عاصمة موحدة لإسرائيل» لا ينتظر منه أن يكون حاميا لمواد اتفاقية وقعت عليها دولته. من أجل البقاء في رئاسة الوزراء، بنيامين نتنياهو مستعد إلى أن يتحول إلى أي متطرف صغير، بلا ثقافة ولا وعي، مطلقا، بالتاريخ ومزالقه.

واسيني الأعرج ed drugs online suppliers.

عن admin

شاهد أيضاً

العرب وإسرائيل وبناء السلام الإيجابي

بقلم:د. ناجي صادق شراب الفرضية الرئيسية التي يقوم عليها البناء الإيجابي للسلام، هي العمل على …