flonase new zealand online. سؤال الهوية هو سؤال الوعي، الوعي الذي يحدد التعريفات والمرجعيات . هذا الوعي الذي يبدأ بتحديد الأطر الخاصة بالأنا الفردية والأنا الجمعية وتلك العلاقة الجدلية المتنامية بينهما .
بكلمات أخرى، الهوية هي “أنا” الممتدة في الزمان والمرتبطة في المكان، مع تحديد قاطع لهذه الأنا الخاصة بي، والتي تختلف عن الآخرين . وكأني بهذا التحديد، أُدخِلُ دائرةً صغيرةً في دائرةٍ أكبر، وأخرى أكبر من الكل، شرط أن تتقاطع تلك الدوائر في نقاط عديدة إلى درجة يصعب تفكيك تلك الدوائر بعضها من بعض، حيث تبدو كأنها دائرة واحدة، هي – إذاً – أقانيم متعددة تشكل أقنوماً واحداً أرتاح إليه وأرتبط به ويرتبط بي .
لهذا، فإن الهوية متعددة المستويات، تفاضلية الترتيب، تكاملية المفهوم، تبدأ بجسدي وتنتهي بعلاقتي مع العالم بما فيه من “آخرين” .
هل يمكن القول هنا إن الهوية اختيار؟! أم إن الهوية جبر؟
اختيار باعتبارها وعياً، أم جبر باعتبارها مشروطة بالمولد والثقافة والمكان . هذا سؤال رد عليه الكاتب العبقري غسان كنفاني يوماً في قصته “عائد إلى حيفا” وأجاب بأن الهوية اختيار قائم على الوعي ولا علاقة له بالدم . وعلى الرغم من حدّية هذا الجواب وأحاديته وانسلاخه عن مفاهيم الثقافة القبلية – بدوية كانت أم رعويّة – فإن هذا الجواب يشكل أحد جوانب المسألة. وبهذا المفهوم أو هذا التناول فإن الهوية -باعتبارها وعياً- تبدو نوعاً من الانحياز ليس الفكري فقط وإنما الوجداني، ولا يمكن تتبع جذور الوجدان الضاربة عميقاً في متاهات من التراكم الثقافي والأسطوري والديني الذي ينبت مع المكان وفيه .
ولهذا، فإن من الدقة القول إن الهوية كوعي أو كاختيار لا يكفي أبداً، على الرغم من أن هذا القول مريح – ونهائي – ولكنه، أيضاً، يحتاج إلى توضيح كبير .
فالوعي لا يقوم على مجموعة مسلمات عقلية فقط، ولا يقوم على مجرد مقدمات منطقية فحسب، الوعي نشاط متعدد الوجوه، يتعرّض لتأثيرات مختلفة من كل الجهات والأطراف، ولهذا فإن الوعي ليس نشاطاً عقلياً صرفاً أو “نظيفاً”، الوعي مؤسس على “تفاعل” حيوي مع المحيط، العقل فيه جزء من عدة أجزاء . ومن هنا، فإن الحيوية المؤسسة على الوعي، تتأسس، أيضاً، على مؤثرات لا عقلية ولا منطقية، أو لا يدخل المنطق في تمحيص صدقها من كذبها، أو حقيقتها من عدمها .
هل أخرج الهوية هنا من حدود الوعي بها إلى حدود قدريتها؟! قد يكون هذا صحيحاً إلى حدّ ما في حالة تفسير الانتماءات القومية والدينية والعقائدية .
الفكر لا يكفي لتفسير ذواتنا، كما أن المنطق لا يكفي لتفسير مشاعرنا . هناك ما فوق الفكر والمنطق في تحديد اتجاهات السلوك وأولويات القيم .
ربما تكون “الأسرة” أولى المؤثرات الأقوى والأكثر تأثيراً علينا طيلة حياتنا في تحديد من نحن، إن بقاءنا مدة تزيد على اثني عشر عاماً نتلقى القيم ودروس السلوك والعادات واللغة من أهلنا تشكل الفترة الأهم في تخصيب أرواحنا وترهيف وجداننا وتكوين منظومة الصواب والخطأ في أعماقنا، وكذلك في تسمين وتضخيم ما يسميه فرويد “بالأنا الأعلى” أو ما يسميه القرآن الكريم “النفس اللوّامة” تلك النفس التي تؤنّبنا على أغلاطنا وترضى عن صوابنا – وفي هذا الصدد فقد كتب الإمام الغزالي أروع التحليل حول نوازع هذه النفس بما يسبق فرويد وغيره بمئات السنين.
“الأسرة” التي يطلق عليها علماء الاجتماع أنها الضرورة لأساس المجتمعات تكتسب حقاً تلك الأهمية في تحديد القيمة وتحديد السلوك المرتبط بهذه القيمة، الأسرة لا تعلّم السلوك فقط وإنما تعلم القيمة المرتبطة بها، ولكل قيمة مثال، هذا المثال – شئنا أم أبينا – منتزع من ثقافة المكان ذاته . المكان – بما أنه قديم ووعاء للنشاط البشري – يتحول شيئاً فشيئاً إلى شيء مقدس ترتبط به حكايات وروايات خاصة ترفعه من مجرد موجود محسوس إلى شيء آخر لا علاقة له بالحسّية . يتحول المكان من مجرد وعاء إلى قيمة بحد ذاته، له قدرة التأثير على الجسد والوجدان، أيضاً. وقد قام مفكرون عرب وأجانب في دراسة هذا التأثيرالمكاني على النشاط البشري وادّعوا وجود علاقة كبيرة بين الأمرين، بما دعي “بالمكانية” في مصر أو “الجوانيّة” في سوريا، ولهذا، فإن المكان يتحول هو الآخر إلى خيط في نسيج تعريف الأنا الخاصة والأنا الجمعية، باعتبار أن هذا المكان يتشكل من مجموعة من المثل والحكايات والأساطير يطلق عليها اسم ثقافة المكان . ثقافة المكان ليست ميكانيكية أو منفصلة، بل هي متصلة وتتطور ببطء ولكنها تتحول فعلاً إلى أشياء مقدسة، ومن هنا قوتها وصعوبة الخلاص منها أو عبادتها وتأليهها .
وقوة المكان تأتي من زمانية ! فالمكان قديم، وكل قديم طيّب وقابل للتأويل، وسهل العبارة، أيضاً.
نحن نحتاج القديم لفهم الجديد، ونحتاج القديم لتعريف حاضرنا، ونحتاج القديم باعتباره خبرة ضرورية، ونحتاج القديم باعتباره أكثر صدقاً وبهجة وقرباً من الطبيعة وأكثر براءة وقرباً من السماء، نحتاج إلى القديم لأنه يذكرنا بطفولتنا الفردية والجمعية أيضاً . القديم ضروري لتعريف الحاضر وإضاءته وإعادة تشكيله . القديم ليس فقط للاعتبار، بل – وبالقوة ذاتها – جزء من تشكيل الوعي، هذا الوعي الذي يحتاج إلى مكان للحركة وزمان للتنفس. القديم، هو الماضي، هو ما تم إنجازه، ويمكن الحكم عليه أو تأويله، هو ما مضى ولكنه ما زال يتردد حتى الآن، ومن هنا فلا انقطاع للزمن، الماضي جزء هام من تعريف الحاضر – مرة أخرى – ذلك أن الماضي (الزماني والمكان) جزء من منظومة القيم التي ظلت على الدوام نافعة ومؤثرة إلى حدّ كبير .
وما تقديس الماضي إلا لهذا، وما العودة إلى الماضي إلا لهذه الأسباب، وبالتالي، فإن صلاح الدين، ذلك البطل الذي أنجز ومضى، سيظل في وجداننا تجربة ناجحة تشكل ذروة من ذروات المثل العليا . هل الماضي مُثلٌ عليا فقط؟! هذه إشكالية أخرى وجدت لها تعبيراً فيما يسمى الأصالة والمعاصرة والعلاقة مع التراث . وبرأيي فإن هذه المشكلة مصطنعة لأنها تعبير عن أزمة بالتعامل مع الواقع، الأمر الذي أدى إلى اختلال بالعلاقة مع الماضي .
عندما أكون صانعاً للتاريخ، فلا أجد مشكلة معه، أما عندما أنزوي فأصبح جالداً للذات، والذات في جزء منها ماضٍ . وتعريف الهوية، الذي هو، أيضاً، تعريف للذات بمستوياتها المتعددة، لا يترك مجالاً للآخر بتعكير صفو هذا الصفاء . الذات لا تقبل معيناً لها في تعريف يفصلها عن الذوات الأخرى .
الهوية بمعناها الشامل – غير العنصري، والمنفتح والإنساني- تحاول وترغب في أن ترى ذاتها مؤطّرة بمكان فريد وثقافة عريقة، وهذا لا علاقة له بالانفتاح على الآخرين أو التفاعل معهم أو التشارك وإياهم . (نرى حالياً نهضة قوميات عديدة تحاول أن تضع الحدود والفوارق بينها وبين الجماعات الأثنية التي تعيش معها، وأكثر من هذا، فإن الفرنسي غوستاف لوبون يرى أن البحث عن تعريفات قومية خاصة بالهوية تحرك التاريخ نفسه على شكل ثورات سياسية وثقافية مختلفة) .
قد يكون من العجيب – وهذا رأيي على الأقل – أن تعريف الذات – في حالتنا الفلسطينية – لا يرى في الآخر / النقيض مكملاً بقدر ما يراه نقيضاً يجب الحذر منه والتشكك فيه، وقد رأينا في العقود الماضية عدد الشعوب والجماعات التي تطالب بانفصالها عن الجماعات التي تشاركها الوطن الواحد . الهوية تحتاج إلى نقيض لتعرف نفسها وتتميز عنه . الهوية باعتبارها وعياً بالعالم تحتاج إلى مَن يثيرها ويحفّزها على اختراع صيغة أخرى ورواية تختلف . وهذا ما يبقي الجماعات حيّة وفاعلة دائماً، وربما هذا الذي يعنيه القرآن الكريم بما ورد في الآية الكريمة “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ..” فالاختلاف في التعريف يعني الاختلاف في تحديد الاتجاهات، والاختلاف في تحديد الاتجاهات يعني تقديم تفاسير مختلفة للمكان الواحد، وهذا هو التاريخ .