ألوان الجوع متى تحيا ومتى تموت ؟؟

12 نوفمبر 2018آخر تحديث :
ألوان الجوع متى تحيا ومتى تموت ؟؟

تحت إشراف د. زياد بني شمسه أستاذ الأدب والنقد جامعة بيت لحم كتبت الباحثة ندى ندى قشقيش من جامعة بيت لحم

“أمسكتُ بقلمي وجلستُ أفكر في مقدمة مناسبة أستهل بها حديثي عن هذا الموضوع ، فقفز إلى ذهني ذلك المشهد الذي لن أنساه أبداَ .فعندما كنتُ صغيرة أُصبتُ في كتفي فذهبت إلى المشفى وجلست أنتظر في الطوارئ ، فرأيتُ رجلاً مسناً يبدو عليه علامات التشرد، فقد كان ممزق الثياب ويعلوه جبين عليه آثار قسوة الحياة، و رجليه من أسفل ركبتيه مغشيتين بالالتهابات، بل و يفوح منهما رائحة الجثث، في منظر كان أبشع ما رأته عيناي، و أجد صوت الطبيب يعلو عليه صارخاً فى وجهه لتعمده ترك رجليه فى هذه الحال، حيث أنه يُعرّض غيار جرحه للماء، وإن استمر على هذا الوضع فمآله إلى فقدهما أو الموت متسمماً ، فأسمع هذا الرجل يجيب بآخر كلمات كنت أتوقع أن أسمعها، حيث قال : وماذا أفعل أيها الطبيب إن حالتي المتردية هذه هي سبيل بقائي على قيد الحياة ،إن مشهدهما يحرك قلوب الناس التيأصبحت كالحجارة فيتصدقون عليّ بما يمنع عني الموت جوعا ..! وفجأة ساد الصمت فى أركان الغرفة ..
لقد كان يعتقد لجهله أن مشهد قدميه الباليتين هما الحاجز بينه وبين الموت جوعا، ولم يعلم المسكين بأنهما حتما تذكرته للموت، على الرغم من صغر سنيوقتها إلا أن هذا المشهد ظل عالقا فى ذاكرتي يتردد فى ذهنى كلما دار حديث عن الجوع والفقر .

إن الجوع: هو ذلك الشعور الفطري الذي يولد به كل انسان ، بل هو أول شعور يجد له الطفل طريقة للتعبير عنه فى صورة بكاء وصياح، دفاعاً عن وجوده و بقاءه فى الحياة، و يستمر الإنسان فى مواجهة ومحاربة هذا العدو بالعمل و السعي، والمشي فى مناكب الأرض طيلة عمره لتجنب المرور به أومعايشة قسوته ،بل للوصول إلى درجة الاتقاء منه، و يفنى الإنسان عمره فى هذا الصراع الذيتتجدد معاركه كل يوم .
وعلى الرغم من تقدم البشرية الهائل، وتطورهم المذهل في كافة المجالات ،ووصولهم إلى سطح القمر، بل وإبداعهم في اختراع وسائل زيادة الترف والرفاهية، إلا أنه يموت كل ثانية إنسان وكل دقيقة أربع آلاف ، وكل يوم مائة ألف ، وكل عام ستة و ثلاثين مليون شخص، ليس بفعل وباء فتاك، و لا مرض عضال لا علاج له، ولكن بسبب الجوع ! أهل عجزت مراكز البحث العلمي التي ينفق عليها المليارات عن اكتشاف وسيلة لحفظ حياة و كرامة الآدمي من الموت جوعا !؟ أم أن أبحاث إمكانية حياة الإنسان على سطح القمر أهم ؟!
بل إن من عجيب المفارقات أن ميزانية إعلانات ودعايات الجمعيات الخيرية على مستوى العالم، لوحدها قادرة على حفظ أرواح أولئك الذين يسعون فقط للترويج بصورهم على أغلفة المجلات، أو تصويرهم فى إعلانات تلفزيونية دون النظر لإمكانية واقعية فى حل أزمتهم ، منتهزين حاجتهم كمادة إعلامية لا أكثر ، لا فرق جلي بين هؤلاء المستغلين وبين الجوع فى وحشيتهم و قسوتهم ..!

و في حين ذلك التطور الذي يشهده التاريخ الإنساني، كان للجوع نصيب أيضا فيه ،فلقد تطور الجوع ولم يعد مقتصراً على حاجة الشخص لبعض اللقيمات كما كان ،والذي قد يدفعه حتى لسرقة الفتات وما هو دون النصاب، من أجل الحفاظ على حياته وحياة من يعول ،بل زادت شراهة الإنسان وازدادت جشاعته، و أصبح يتضور جوعاً للملايين ،بل و يتنازل فى سبيل تحصيل ذلك عن قيمه ومبادئه ويظلم غيره ويسلبهم أشد احتياجاتهم ،و يفعل ذلك ويرى نفسه فى صورة من كان فى صحراء ، ولا سبيل له إلى النجاة إلا بتناول جثث من مات جوعا فى الطريق! و لعظيم الأسف أن اهتم الإنسان بجمع الأموال والتفاهات ،و نسي وسط ذلك ما هو أهم، لقد نسي إنسانيته، بل واكتسب وحشية فاقت تلك التي في الغابة، و تفوق على غيره فيها، فلقد تميز وانفرد بانعدام إحساسه بأبناء جنسه، فنرى أشد المجاعات فى العالم اليوم يذهب ضحاياها آلاف الأطفال فى اليمن و هي تقع جوار أكبر دولة فى العالم تنفق على الطعام سنويًا مقارنة بعدد السكان ! فأي كائن فى الغابة أطغى وحشيةً من الإنسان الذى يرى أبناء فصيلته، بل وإخوته يموتون جوعاً و هو لا يستشعر بهم و لا يمد لهم يد العون.
أتساءل لو كان الجوع متصورا فى هيئة آدمية، أهل كانت ستجتمع عليه جيوش الأرض التى ينفَق عليها المليارات بدون طائل إلى زيادة معاناة هذا العالم ؟! أم أنه سيقف يدافع عن نفسه و له الحجة علينا؟! فإذا نظرنا للواقع،ما ذنب الجوع أن يهاجَم و أن يسَب وأن يشنّع به و نحن المخطئون ! نحن من نتسبب فى معاناة الملايين، بسكوتنا و تغاضينا عن آلامهم، فلو بادر كل شخص منا بكسرة خبز في حل هذه القضية لما بقي جائعاً واحداً على ظهر البسيطة ،و لكن انشغالنا بأحوالنا قد أعمى أعيننا ،و أبلد مشاعرنا، اللهم إلا إذا عايشنا ما يعانونه طوال العام لساعات معدودة في نهار رمضان، بل و نكون على اطمئنان من وجود الإفطار -على عكس حالهم-.

إذن أدركنا حجم المشكلة، والسبيل إلى حلها في التعرف على أسبابها، وأرى أعظمها التخلى عن قيم الدين التي تعد أكبر داعي للإنسانية، فتتولد فى النفس معانيإدراك معاناة الآخرين ،بل و تزهر ثمارا طيبة فى القلوب.
ندرك يقينا مما سبق؛ أن ازمة الجوع ليست نقص موارد بقدر أنها أزمة خلق و قيم وافتقاد للإنسانية ،مما جعلني أدرك حقيقة السبب الذي جعل الرجل المشرد يعرض قدماه للبتر ،أو تذهب حياته دون أن يعفه أحد عن السؤال ويكفيه مؤنة يومه.
و ليت معاناة الجوع تتوقف عند هذا الحد أو هذه الصورة فحسب ،ولكن عدم إشباع العقول ينشأ عنه الجوع الفكري الذي يتسبب في تفشي الجهل وانعدام الوعي،و تخلف الأمم ،و خير دليل على ذلك حال أمتنا التي تعيش سنوات شداد من مجاعات العقول ،بعد أن نشأ جيلاً لا يعرف طريقاً إلى أقرب مكتبة فى الحي،وذلك إن توافرت من الأساس ،و لايدرك أهمية لعلم ولا مكانة لمعلم ، و صارت قدوته تتمثل فى شخصيات يعد الابتذال الذي تقدمه فن ! فى ظل معاييرهم الضالة !.. كيف السبيل إلى الشبع المعرفي،و جيل بأكمله قاطع لرحم الكتب ،والكتاب عاق لهم، لا يعرف لهم حقا ،بل لا يكاد يفقه اسم لكتاب واحد له أثر فى تكوينه !؟ وأرى ألا سبيل إلى النجاة من مصير الجوع الفكري، إلا بسرعة التحرك لمواجهته بغرس مكانة العلم في النفوس ،وتأهيل الجو المناسب له من مدارس و كتب و معلمين وجامعات ،و ثقافة تدرك أن خطر جوع العقل أشد منجوع البطن ،و سيتحقق ذلك عندما نجد المزاحمة على أبواب المكتبات كالمزاحمة على أبواب المطاعم .
كما أن الجوع لا يقتصر على خواء البطن والعقل ،فحتى القلوب تحتاج إلى غذاء وإشباع متمثل فى الحب الصادق و الدفء و العطف ،و الرأفة و التضامن، والتكافل و غيرها من القيم التى لو تشبع منها الانسان لما صار جوع بطنه هما يؤرقه ليلاً. وأخيرا أجد أن الجوع سلسلة من ثلاث حلقات إن تكامل إشباعها عاش الإنسان في السعادة المنشودة التى يضيع عمره قبل أن يدركها،ويضل الطريق في محاولة تحصيلها ، وإن كان وافر الحظ يدرك حلقة او اثنتين منهم، فما الظن إن أدركهم ، فهل يستطيع أحد أن يصف نعيم حياة الفرد إن أشبع قلبه وعقله وبطنه ؟! original viagra puchase.