كتب : شيماء عودة
بإشراف د. زياد بني شمسه أستاذ الأدب والنقد في جامعة بيت لحم كتبت الطالبة شيماء ماجد نمر عودة
“أن المقاومة الفلسطينية قدمت، على الصعيدين الثقافي والمسلح، نماذج مبكرة ذات أهمية قصوى كعلامة أساسية من علامات المسيرة النضالية العربية المعاصرة.
حفل التاريخ الفلسطيني، منذ الثلاثينات ، بمظاهر المقاومة الثقافية والمسلحة على السواء، واذا كانت الثورات المسلحة التي خاضها شعب فلسطين قد انتتجت أسماء من طراز عز الدين القسام مثلا، فإن أدب المقاومة قد انتج، قبل ذلك ومعه وبعده، أسماء من الطراز نفسه، ما زال المواطن العربي يذكرها بكثير من الاعتزاز، ومن أبرزها إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، وأبو سلمى (عبد الكريم الكرمي) وغيرهم.
ومن هذه الناحية فإن أدب المقاومة الفلسطيني الراهن، مثله مثل المقاومة المسلحة، يشكل حلقة جديدة في سلسلة تاريخية لم تنقطع عمليا خلال نصف القرن الماضي من حياة الشعب الفلسطيني) غسان كنفاني: الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال: 1948-1968.(
اسهامات الشاعر عيسى العزة في أدب المقاومة :
كانت فلسطين وما زالت الحضن الدافئ للشاعرعيسى العزّة و حبّه الأبدي ، تتجلّى فيها روحانياته الشعريّة العبقة ، ثائرا لجمال الكلمة ونسيم الحروف على ترابها ، لتصبح الكلمة الوطنيّة إيقاعا وموسيقى يتغنّى بها كل من قرأها .
و قد أبدع الشّاعر في رسم الطّريق وتوضيح معالمه عبر سنوات حياته ، منذ الشباب حتى الكهولة ، فشكل ديوانه محطات صاخبة ، آمال وانتكاسات ، ثورات وانتفاضات ، ليشكل مسيرةَ كفاحٍ طويلة لا زالت نكبة فلسطين جرجها الأكبر .
قد سطّرت كتاباته أيضا أروع المعاني في المقاومة حيث ظهرت اتجاهاتها في شعره (في ديوان تعلم كيف تنتصر الصادر عن هيئة شؤون الأسرى والمحررين)دعوةً للشعب المقاومِ ونشيداً صارخاً عالياً للقدسِ عاصمة فلسطين الأبديّة ، فقال :
في السّفوحِ في الوهادِ في الرُّبوعِ في النِّجادِ صامِدون صامِدون
أَحمِلُ الأَقصى بِيمنايَ وفي اليُسرى القيامةِ إنّها قُدسي سَأحميها ولا أَخشى المَلامَة .
ثمّ خاطب أطفال الحجارةِ وهم في جولة مع عصابات الإحتلال قائلاَ:
نَزَلَتْ إلى السّاحاتِ أسرابٌ مُقنَّعة،عصافيرٌ صَغيرة نثَرت خصائلَ شعرِها الذَّهبيّ أسدلت الضّفيرةُ
نَزَلَتْ إلى الطُّرقاتِ أسرابٌ مُقنّعةٌ تُقاتِلُ وعلى الصُّدورِ تَلوحُ أَوسِمةٌ،وتَرتَفِعُ الَمشاعِلْ
اضرِب لقد هربَ اللصوصُ،ولا تَخَفْ اضرِب فَلا غيري يُقاوِم
اضرِب لقد جبِنوا وأَعطوكَ الإِمارة اضرِب فأنتَ أَميرُهُم وأَميرُ أكوامِ الحِجارةِ.
ولم ينسَ حقَّ الطِّفلِ الفِلسطينيِّ في الاحتفالِ بمناسبة (عام الطَفل الدّوليّ)، فقال :
طفلٌ لكن
يَرْفَعُ عينيهِ الآمِلَتَينِ لِنورِ الشَّمْس
يَرْفَعُ ساعِدَهُ الأَسْمَرَ يَنْتَظِرُ العُرْس
طفلٌ ، والعالمُ مَجنونٌ يَحتفِلُ بِعامِ الطِّفل …
تنقّل الشّاعر بسلاسةٍ في جَنَباتِ هذا الوطن الجريح ، حاملاً همّه وآماله ، ولم يكتفِ بذلك فأطلق أبو الرائد الحياةَ كاملةً للآخرين بعده،من أجل أن يكملوا المشوار إلى الحريَةِ والعودة ، أطلقها مِن أزقّة المخيّم ومن خلفِ قضبانِ السّجون،يوثق ذلك معتقل أنصار في النقب؛ الذي قام الاحتلال بإنشائه بعد انطلاق انتفاضة الحجر المجيدة،هناك حيث كان أسيرًا اختار لنفسه موقعًا بين تلك الخيام، ونظم قصيدة بعنوان “عيون النسر”، ومما يقوله:
وجوهٌ لا يعفِّرها التّراب وأعناقٌ كما انتصبت حراب
وخيماتٌ كأشرِعةٍ تَهادَتْفضَجَّ الرَّمْلُ وانداحَ السَّراب
فيا نقبَ البُطولةِ ألفُ مَرحى فشعبُك لا يهونُ ولا يُعابُ
ويا نقبَ الرُّجولةِ أيُّ مَجْدٍ تُسطِّرهُ لتقرأَه الصِّحابُ
ويا نقبَ الأَحِبّةِ أيّ لحنٍ بهذا الليلِ يعزفُهُ العذابُ.
لم ينسَ الشّاعر الأم الوطن ، حيث الحضنِ الدّافئ ، والأرض الخصبة ، والسّنابل والجيلِ المقاتِل ، فلسطينُ هي الأم والزّوجة والحبيبة حاضرةً دائماً في جواره بعد كل غياب ، فقال وأبدع القول في قصيدة “أقبل عيدك” :
أقبل عيدُكِ أَهلاً أُمّي يا كُلَّ الأعياد أَقبَلَ عيدُكِ أَهلاَ أَهلاَ يا كُلَّ الأَمجادِ
جنّةُ عَدْنٍ بَيْنَ يَدَيْكِ عَظَّمَكِ الدَيّان أنتِ الحُبُّ وَأَنتِ القَلْبُ وإِلَيْكِ الإحسان
…………….
أُهدي أمّي باقةَ ورد أهديها فلةًأُهدي أمي كلَّ حَياتي أُهدِيها قُبلة
ماذا أُهدِي ماذا أُهدِي فِلَسْطينَ هَدِيَّة ً أُهْدي عُرْساً أُهدِي شَمْساً تُشرِقُ حُرِيّة
يتضح من تلك الأبيات أن “عيسى العزة” صمم تركيبة خاصة من الأم-الوطن والوطن-الأم، مما يعني أن واجب الوفاء والتضحية والرحمة والعرفان يكون للوطن كما هو للأم؛ وفي ذلك تعظيم للوطن (فلسطين) في النفوس، كما أنه خصّ من الوطن درَته “القدس” التي عليه تلبية ندائها للدفاع عنها.
وإذا ما استعرضنا الأشعار المختلفة في عيد الأم، سوف نجد أن “عيسى العزّة” قد تميز بالتجديد في هذا المجال؛ لأنه أتقن الربط بين الأم والوطن، وفي ذلك رفع سمو الوطن، كما أن فيه تكريم للأم الفلسطينية التي كان هو شاهد حي على ما عانته وما كابدته، وهي تلملم الجراح، وتضمدها، وعاصية عن عوامل التشرد والضياع التي أرادت لها الانهيار والتخلي عن القيم الوطنية، فكانت النتيجة كما أرادتها هي؛ بأن حثت زوجها على النهوض، ووفرت لأبنائها من جسدها (البارد) الدفء والحنان والتربية السليمة، مما جعل منهم الثوار والقادة والعلماء والشعراء والكتاب الذين أمسكوا بناصية فلسطين وأعادوها على خارطة العالم رغمًا عن بطش القوة المفرطة التي يمتلكها الأعداء.
ما قرأتُهُ في عيون هذا الشَاعر النسر درساً تربوياً و كفاحيّاً ، بعث من خلال ترنيمات كلماته أشجى الألحان وأبهى سمفونيّة يعزِفها التاريخ الفلسطينيّ في كلّ وقتٍ عبر معلمِّ الأجيال ، فقال للمعلم في قصيدة “مرحى وجرحك يا معلّم نازف ” عام 1987 :
مَرْحى وجُرحُكَ يا معلمٌ نازِفٌ ودِماكَ تَحْكي قِصَّةَ الَّتشْريد
ويداكَ تُمسِكُ مَوطِنًا مِن حَوْلِهِ زمر الذئاب وساسة التهويدِ
وفي عام 1985 كتب الشاعر قصيدة يشيد فيها بالمعلم ودوره في بناء الأجيال، وبالتالي بناء المجتمع. ومما يقوله في تلك القصيدة:
قال المعلّم : قلتُ مَن يَبْني صُروحاً لِلوَطَن
يا مَرْحَباً يا مُرشِدي للدَّرْبِ في عَصْفِ الفِتَن
وهذا غيض من فيض ، نجد الشاعر عيسى العزّة يتنقّل بيين طيّاتِ هذا الوطن ، حامِلاً شوقه وحبّه وعذابه فوق سهول فلسطين وجبالها ، مصوِّراً شعبَه مُحبّاً لِثَراه الطّهور، عاشِقاً باحثاً عن مفرداتٍ حقّ العودةِ ، بثَّ همَّه و حُزنه للشّمس عند الشّروق والغُروب ، للشّجر والحجر والطّير .
جماليات تعبيره لا تقل عن جماليات نصّه،فهو يقطف من كُلِّ بُستانٍ زهرة،يُلَوِّنُ فيها حياتنا ويرسم فيها آمالنا،هو الشّاعر المُغَرِّد بالنّورِ والنّار الشّاعر الشّهير (عيسى العزّة).