من مصلحة الجميع الاستفادة بجدية من النموذج الصيني في محاربة فيروس «كورونا» بدون مكابرة. هناك محاولات لإنكار فرادة ما حدث في «ووهان» و«هوبي»، مراوغة في الاعتراف أن ثمة خارقاً حصل، وأن بلد التنانين فعلت ما يعجز عنه الآخرون.
بات بمقدورنا القول إن ثمة نموذجين عالميين في المكافحة، أحدهما اتبعته الصين، وهو مبني على السرعة الفائقة في اتخاذ القرارات، وعدم التردد في إعطاء الأوامر الصارمة، والحرص على مراقبة تنفيذها، من شعب لا تزعجه أبوية النظام ولا يؤرقه الخضوع للتعليمات، مع امتلاك القدرات التكنولوجية واللوجستية العملاقة. وقبل كل هذا وذاك تأتي الإرادة والتضامن الجماعيان على رأس اللائحة. في فرنسا إجراء الفحوصات للتأكد من الإصابة محدود بما يقارب الألف في اليوم، هذا حال الكثير من الدول الأوروبية.
لم تجرؤ البلدان المجاورة لإيطاليا على إغلاق حدودها، إذعاناً لفكرة أوروبا الموحدة التي لا تقبل التخاذل. حسناً إذن، جاءت النتيجة معاكسة، واضطرت إيطاليا في النهاية لعزل نفسها وعشرات الملايين من سكانها لفترة أطول، مع معاناة أكبر. تردد طويل، في أي منطقة، قبل إقرار إغلاق المدارس، أو توقيف رحلات طيران، أو تعطيل قطارات.
انتظرت أميركا ألف إصابة لتتخذ إجراءات صارمة. في لبنان كلما اتخذت الحكومة قراراً كبيراً طلب منها المزيد، واتهمت بالتقصير. وهذا هو الحال في كل مكان. تريد الشعوب حماية وعزلة كليتين، تفوقان ربما قدرة الحكومات على تحمل أعبائهما الاقتصادية وانعكاساتهما على الحياة. تعتبر الصين أن قطع التواصل الحاسم بين الناس يحد من قدرة الفيروس على الانتشار، بينما تتراخى أوروبا لاعتقاد أن العدوى تأخذ مجراها لتبلغ حدودها القصوى، ولا حلّ في غياب دواء ناجع، قبل أن تتعرض الغالبية الساحقة من المواطنين للفيروس، وتشكل الشعوب ما يسمي «المضاد الجماعي»، وهو ما يشبه لقاحاً طبيعياً لأهل البلد الواحد. من هنا كان تصريح رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون بأن المرض سيصيب سبعين في المائة، وكلام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن ثلثي شعبها لن ينجو من الإصابة.
الصين كان لها رأي آخر، رغم أنها مقر الوباء، وصاحبة الحمل الأكبر. عندما بلغ المرض الذروة، حجرت على الناس في منازلهم، وأوصلت لهم حاجاتهم الحياتية بواسطة الروبوتات. وتمكنت من قطع التواصل بين الطاقم الطبي والمصابين بتوزيع الأدوية والملابس والأطعمة على غرف المستشفيات بواسطة هذه المخلوقات الذكية. البعض يتحدث عن تسرع الصين في إعلان انتصارها. مشهد الرئيس الصيني في «ووهان» وكر الفيروس المرعب وهو يلبس الكمامة كان مؤثراً.
الفتيات الصينيات اللواتي ينزعن كماماتهن بفرح ويشهرن نهاية معاناتهن يبعثن على الأمل. لا، لم تتسرع الصين في إعلان انتصارها، ثمة ما هو أكبر من تناقص حالات المصابين كل يوم. هناك التطبيقات الذكية التي صارت منتشرة، وبمقدورها تقديم معلومات لحامليها، تنقذ الآلاف. خوذات يلبسها رجال الشرطة، تقيس بشكل تلقائي حرارة كل من يمر حولهم، لرصد أي حالة مريض في الشارع.
البصمة الإلكترونية لكل صيني التي كانت تستخدم سابقاً لإتمام المعاملات، صارت قادرة على تشخيص الحالة الصحية لحامليها، وبدون أن تضيء باللون الأخضر، لا يمكن للشخص أن يستقل باصاً أو قطاراً أو يدخل مجمعاً تجارياً. من هنا يمكنك أن تفهم سر فرح الرئيس الصيني. ثمة تطبيق على الهواتف، يمكنك من رصد أي حالة كورونا في محيطك، والمسافة التي تفصلك عنها، لتجنبها. وبينما لا تزال دول متقدمة تنتظر ساعات لمعرفة نتيجة الفحص، وتشكو أحياناً من عدم توفره، يعرف كل صيني بلمسة إصبع إن كان مريضاً أو محاطاً بمن شملهم الداء. شيء يشبه ما نشاهده في الأفلام الهوليوودية. مرة أخرى.. إنها السرعة في تكييف التكنولوجيات لتصبح قادرة على فعل عجائب لم تكن ممكنة، قبل أيام أو أسابيع فقط. يعترف الأميركيون بغصة أن عدد الأبحاث المنشورة من قبل الصينيين بات يفوق تلك التي يقدمها أميركيون. يهلعون، لأنها المرة الأولى منذ سقوط الاتحاد السوفياتي التي يتمكن فيها نظام غير ديمقراطي من تسجيل تقدم علمي يعتبر اختراقياً.
تضرب الحكومة الصينية عصافير كثيرة بحجر واحد وهي تكافح الوباء الذي ابتليت به، فهي تثبت أنها قوة ضخمة، وأنها قادرة على تجاوز أصعب الكوارث، بتضامن لافت بين حكامها وناسها، بعد أن أسكتت أي صوت معارض، بينما يشكو الفرنسيون من الاختلاف على طريقة إدارة الأزمة، وكذلك الألمان والإيطاليون، ويكاد كورونا يصبح سبباً للتصدعات السياسية الداخلية الكبرى، بدل أن يجمع ويوحد. لكن ما لم ينتبه له كثيرون، هو الدور الفارق الذي لعبه الذكاء الصناعي.
فقد وضع الرئيس الصيني شي جينبينع، على رأس خطته حين تسلم الحكم التطور التكنولوجي كشرط أساسي لتحقيق أمرين جوهريين؛ «السيادة» و«الاستقلال الوطني». أما المفتاح فهو توفير كل المعدات محلياً بدون الحاجة لاستيراد أي قطعة. وهو ما أظهر نجاعة استثنائية في محاربة الأوبئة ذاتياً، قبل مواجهة الدول. ومع ذلك هناك من لا يزال يرى في الأسلوب الذي خطته «ووهان» و«هوبي» بدماء وأجساد ضحاياهما، ما يستحق السخرية حيناً، والاستخفاف حيناً آخر، واعتباره نمطاً ديكتاتورياً لا يمكن أن تقبل به ديمقراطيات عريقة، كأن ترسل «درون» فوق رؤوس مواطنيها، لتنهر من لا يلتزم بوضع كمامة. لكن للأسف، يبدو أن كل المعترضين الكبار يضطرون في النهاية، للعودة إلى النموذج الصارم الذي رسم هناك. وصدق من قال: «كنا نظن الصين مشغل العالم فإذا بها تصبح مختبره العلمي».
استاذة في الجامعة اللبنانية – بالاتفاق مع “الشرق الأوسط”