بقلم: يونس العموري
كم هي مثقلة أجندتنا الفلسطينية بمحطات (نكبوية ونكسوية وتقاتلية … ) وتكاد تكون مليئة بكل افعال الهم والغم والقتل والتقتيل والصراخ، بل صارت حافلة بهوامش الذبح على خلفية الإنتماء السياسي والحزبي برصاص الأخوة الاعداء، رفاق القيد والبيت ولربما القبر الواحد ، ولكل شهور العام لدينا الشيء الكثير من المرثيات لنمارس بواكينا، ولنعايش أزماتنا ووقائعنا حتى صار لنا الكثير من المناسبات التي تنتظرنا لحراستها من عبث النسيان، وشقائق النعمان ما عادت تبحث عن هوية القاتل ان كان اخا ام رفيقا، ام عدوا ومن لا يزال يتربص بطريق الاحلام ..
هي الذكرى من جديد في حزيران الأليم، ولحزيران معنا أقاصيص وحكايا، فسقوط الجيوش العربية “الزائرة”على جبهات القتال، والتي تنزهت بساحات الوغى، كانت هنا قبل عقود من الزمان وكنا بالإنتظار للعودة المظفرة الى سواحل الاحلام ، وسقطتت الاكذوبة الكبرى ، والجدة عند ابواب المخيم قاعدة لتشهد مرة اخرى بأم عينها كيف أُغتصبت ام المدائن وسيدة الروابي، ومدينة الله.
ولحزيران نقوش على اجسادنا حينما شهدنا سقوط اخلاقنا وقيمنا وأصبحنا كمن يتوسل ويستجدي سادة العصر الجديد وامراء المنابر وملوك الإقطاعيات بوطن يئن تحت ضربات ذوي القربى اكثر، بحزيران كانت لنا وقفات خزي وعار حينما صارت فلسطين عنوانا لممارسة فن العهر السياسي السلطوي … وكنا ان ركعنا سجدا ركعا لمن يأتي مجددا مهللا مكبرا بالفتح الجديد، بحزيران ايضا شهدنا سقوط اقنعتنا وزيفنا حينما دوسنا كوفية ظلت لعشرات السنين متألقة متباهية على الروؤس ، وصرنا حراسا للقبور، ولوردة حمراء تحاول ان تنمو وسط خراب البساتين …
بحزيران كان الطريق طويل والمشوار صعب، وما بين الحزيرانين تبدلت القصص واختلفت المعايير والقيم، كنا نقول اننا لا نقبل القسمة على اثنين فصرنا نقبل قسمة اشياءنا على انفسنا ونحمل في ثنايانا كل تناقضات ابجدياتنا، وقسمتنا هذه قد طالت كل ما لا يمكن ان يقبل القسمة فصار لنا وطنان ورئيسان واعلامان وأكثر… بحزيران تبدلت كل المعاني … فكنا ان شهدنا جر جثث القتلى بشوارع البؤس والشقاء… وصلينا بالعراء وإمامنا هلل وكبر وركع وسجد واكتشفنا ان صلواتنا لرب غير رب الأخرين فكان القتل والذبح وضرب الهروات لمن صلى، فالأمير الجديد لم يجز للصلاة ان تستمر في ساحات ذاك المسمى امارة من آمنوا بالدين الجديد، وصار المشهد هنا في ظل الحكم الرشيد لسيد لغة الأرقام مختلف عن اللغات الأخرى … فهو لا يعرف الا عمليات الطرح والجمع وحسابات ارقام الخزينة واستثمار ودائع المواقف لرعاة العوالم وحتى ترضى امبرطوريات البزنس عن سلوك أولي الأمر منا .. فصرنا كمن يلوذ من فعل صلاة المؤمنين نحو تجارة الرق الجديد. قيل لنا ستكون لنا الحرية والسيادة والاستقلال، ولكننا لا بد ان نأخذ حصصنا من دمكم، ومن شعوركم بالمواطنة الكريمة، واصبروا وصابروا فموعد الفجر لا بد قادم، وسيزول الليل وانفضوا عنكم غبار سنين شقاء كل حزيرانيات السنين، واستعدوا لممارسة الفرح، وكونوا كما هي الشعوب الأخرى حينما تتدافع نحو من يغني ويرقص ويمارس اللهو وسط المدائن … فإستبشرنا كل الخير ورحنا نسترق السمع لمعتلي منصات التصريحات ونرقب تحركات سادتنا ونحلل ابتساماتهم ونعشق ظهورهم على شاشات عملاقة واصبحنا خبراء بلغة اجسادهم ونقرأ ما بين سطور بياناتهم، وخبرنا فنون التكتيك وما يقال وما لا يقال، وما يجب ان يقال وذاك المحرم على القول.
وكانت لنا كل المواعيد ان هذا الحزيران لهذا العام سيكون نهاية حزيرانيات السقوط … وكان ما كان من تأجيل لفرح السيادة والحرية والدولة وقيل لنا عودوا وانتظرونا من جديد لبشارة اخرى بعامكم القادم بسنة آتية… ولكن كونوا منتظرين هادئين كما يجب ان تكونوا والا فحزيران سيحمل لكم الجوع والقتل والهم والغم وابقوا على عهودكم وسيد لغة الارقام سيظل بالحسابات الدقيقة مشغول ، والحسابات هنا لها علاقة بالإنحلال والتحلل والمعادلة قابلة للمستحيل .
في حزيران نحاول ان نقنع انفسنا بان القادم افضل ، ونحاول ان نرتوي من ينبوع الصبر ونرتع بالعيش في حظائر المدن الصاخبة المتلظية بالشوق الى عشاقها ، والتهديدات باقتحام احلام القرى والقاطنين على الحدود الفاصلة مع كوابيس الضم والانضمام والتهديد سيد الموقف، ولن نرضى عنكم حتى تكونوا كما نريد ان تكونوا، والتكوين له معادلة ، رموزها منذ البدايات معلومة ومعروفة ، بشي من التجويع والترويع والارهاب ليُصار الى التدجين والقبول بالمرفوض والمرفوض سيصبح مطلبا للغوغاء في عوالم الانفلات في ظل القهر الممارس على فقراء البيوت القاطنة عند اطراف الشمس الغائبة عن الشروق والغائبة باستمرار ، ويظل حزيران بذكراه قابلا للتطور ومفتوح الخيارات على كل اشكال الهم والغم .
انه الواقع بامتياز حيث اللا فعل ، وحيث الانتظار للمجهول وفقدان منهجية قيادة الامواج المتلاطمة ، والرعاع باتوا الرعايا الرعاة للدين الجديد والمبشرين بالعهد القديم القادم على صهوة الاعتراف بالقاتل والممعن بالذبح من الويد حتى الوريد ، وبالكلام المدجج بطلاسم ابجدية ، وفي حضرة الابخرة والشعوذة واستحضار المدد من العوالم الاخرى يكون هذا الكلام المسمى بالموقف العنيد الفاقد للمعنى وغير القابل للتنفيذ و يتربع بوسط الحضرة شيخ الطريقة ويبدأ بالتراتيل التي من خلالها سيكون برتوكول الوصايا لماهية الزمن القبيح ولرجالات ساسة الاحتراف على منصة الصراخ والتهريج … هكذا كان وهكذا سيكون ….
في حزيران لا بد من الاعتراف، ولا بد من الصراخ، ولا بد من العويل، ولا بد من محاولة رسم لوحة الواقع الذي نحيا ، ولا بد من مواجهة الحقيقة بمواجهة الذات، ولا بد من أن نعي أن ثمة انكسار بأنفسنا قد حدث، وأن في النفس الكثير من التناقض وثمة ضجيج مشاغب يغزو الوجدان، فما بين قتل الفقراء بحواري الخنوع والسقوط وتشويه ابتسامة طفل يحاول أن يعبث بسنين عمره الشقي، وما بين النوم في بحر التنظيرات بشطر الوطن المسلوب يكمن تمزق الذات والهوية، التي لطالما اعتبرناها واحدة موحدة.
لنا أحلامنا الحزيرانية ، وصراخنا وآمالنا التي كنا نعتقد انها ممزوجة بتلك المعاناة من صلف الاحتلال والة التدمير والقتل، إلا أن المشهد هذه المرة مختلف، ويأتي اختلافه باختلاف وقائع الوطن خلال العدوان على الحلم المتجدد بالعودة وتقرير المصير الذي أضحى بعيد كل البعد عن وقائع معادلة الحسابات الرقمية . ويظل فعل الانحلال من كل الاتفاقيات العنوان الابرز بهذا الحزيران المتناقض مع ذاته ومرة اخرى سنحترف الانتظار …
وهنا وجدتني متسائلا اي شهورنا الفلسطينية ستحمل لنا البشارة ما بعد حزيران المسمى حزيران النكسه وحزيران الإنقسام وحزيران التلظي والتشظي، وثمة خجل يتبلور الآن بذواتنا من مواجهة اللحظة. والتحدي يتسلل الى ثنايانا.
والسؤال يتبلور ويتضح اكثر تحت المجهر… فما العمل يا سادة القول البليغ في ظل اختطاف جماهيرنا واقناعها بإمكانية رغد العيش تحت جنح التسليم بواقع الأمر والاستسلام لحيثيات معادلة العقلنة والتعقل والاخر يقبل بتلك المعادلة وتنفيذ الضم بات قاب قوسين واقرب الى اجندة المبارزات الكلامية في الغرف المغلقة والفعل مفقود حتى الان، الا بالامتناع عن استلام دراهم العيش والشيكل قد اضحى ملك ملوك لعبة العض على الاصابع … وهو الصمت من جديد يغزونا وكأن عدواه قد أصابتنا بمقتل وأصبحنا نلوذ بالفرار حتى من انفسنا حينما يغزونا الخجل… ولا مبرر لنا مهما حاولنا التفسير، وبصرف النظر عن القمع أو ما يسمى بالمصلحة الوطنية العليا.
فيا ايها السادة ويا أولي الأمر فينا … ويا عمالقة الحضور الإعلامي … ويا محترفي فن صناعة الكلام وصياغة فنون التكتيك … هذا بيان حزيران الفقراء … الذين يتأبهون لأن يغادروا مشهد المواعيد القادمة في الأجندة الفلسطينية … اسمعوا جيدا واعلموا ان ثمة من يولد الأن وسيكبر غدا ولن يطيق رسم وجوهكم على مساحات الوطن ان بقيت هذه الأجندات فقط غما وهما وقتلا وذبحا.
ايها السادة، على مختلف مشارب فقهاءكم وتعاليم اديانكم وكتبكم التي صارت مقدسة، واراء امراءكم، ورؤية رعاة مشاريعكم، هي كلمة الفصل وكلمة العدل وبما سينطق به الشهداء ان عادوا، فليس في الوادي الا حجارته، ولن تكون الا لغة الضاد لغتنا، و(يونس في باب الشمس) سيتسلل نحو مغارته وخلوته ليمارس عشقه لنهيلته، وسيعدوا ركضا نحو جبال الجليل وينحدر نحو وديان الشمس ليصل الى قبلة الله الأولى، ويركع ساجدا مصليا عند جلجة المسيح، ويسير بدرب الآلالم ليوجه لكم النداء من جديد بحزيران هذا بأن عودوا الى رشدكم وقولوا ما يجب ان يقال للفقراء الذين يعرفون ممارسة الحب والعشق قبل ان يتمشقوا بنادق من سطروا بالأحمر القاني ابجديات التاريخ ….