بقلم: الدكتورة منار الشوربجي*
قضية قتل الشاب الأسود جورج فلويد لم تكن هي التي فجرت التظاهرات في أكثر من عشرين مدينة أمريكية، وإنما كانت تراكم سلسلة من الأحداث مؤخراً، أكثر ما يلفت الانتباه فيها أنها تماثل أحداث وقعت بالماضي بل وبعضها يماثل بشكل صادم أسوأ الأحداث التاريخية التي مثلت علامات فارقة في كفاح السود الأمريكيين، من أجل العدل والحرية.
ففي شباط، اعتدى رجلان من البيض على شاب أسود كان يمارس رياضة الجري ثم تطور الأمر لمشاجرة، انتهت بقتل الشاب، أحمد آربري، وترك جثته في الشارع. ورغم أن الرجلين كانا منذ وقوع الجريمة معروفين لرجال الأمن، فقد ظلا طليقين لمدة شهرين إلى أن نُشر فيديو للواقعة، تبين أنه كان في حوزة رجال الأمن أصلاً، كان قد صوره ثالثهما، فكان الغضب الشعبي الذي أدى للقبض على ثلاثتهم.
وقصة آربري شبيهة بقصة الشاب الأسود تريفون مارتن الذي قتل عام 2012 على يد رجل أبيض. وكانت كل جريمة مارتن أنه كان يسير في الشارع.
وما هي إلا أسابيع قليلة حتى برزت قصة أخرى جرت وقائعها هذه المرة بولاية منسوتا، والتي توفي فيها شاب أسود، جورج فلويد، على يد أحد رجال الشرطة عند توقيفه، حيث ضغط بركبته على عنق الشاب، الذي ظل يقول «لا أستطيع التنفس» حتى فقد الوعي لكن الشرطي ظل في وضعه هذا حتى مات فلويد.
وقد تبين من تسجيل الواقعة بالصوت والصورة زيف رواية الشرطة عن تفاصيل الواقعة، فعمت التظاهرات ثم أحداث عنف بالمدينة وغيرها من المدن الأمريكية. وقصة فلويد هي بالضبط قصة إريك جارنر الذي توفي بالطريقة نفسها في عام 2014 بعد أن قال العبارة نفسها «لا أستطيع التنفس».
ومثلما حدث مع رودني كنج في 1992، فإن مقتل جارنر أدى لطرد الشرطي من منصبه ولكن المحكمة برأته.
ولم يتضح بعد ما إذا كانت قضية فلويد ستلقى المصير نفسه.
ورغم كل ذلك التشابه، إلا أن المذهل جاء في قصة السيدة التي هددت رجلاً أسود بمدينة نيويورك. فرغم أنها خلت من العنف المادي، كان الترويع الذي انطوت عليه يحمل دلالات فجة عن عنصرية تعود بجذورها لأكثر من قرن من الزمان.
ففي إحدى الحدائق العامة بمدينة نيويورك، كانت سيدة بيضاء قد تركت كلبها يجري بحرية، فقال لها الرجل الأسود المسؤول إن عليها أن توثق كلبها وأشار للافتة كتب عليها بوضوح أن الكلاب لا بد أن تظل موثقة «طوال الوقت» بالحديقة. وبدلاً من الامتثال، هددته السيدة باستدعاء الشرطة مؤكدة أنها ستخبرهم «أن رجلاً أسود يهدد حياتي».
والعبارة تعود بجذورها لزمن الفصل العنصري، حين كان السود يتعرضون للتعذيب والقتل بزعم أنهم «يهددون نساء البيض». ولم يكن يسلم من ذلك المصير حتى الأطفال.
ففي عام 1955 زعمت امرأة بيضاء تدعي كارولاين براينت، أن الطفل إميت تيل، الذي كان في الرابعة عشرة من عمره، دخل متجرها وتحرش بها، فقام زوجها وأخوه باقتياد الطفل من منزله ليلاً لنهر بالمدينة وضربوه حتى الموت ثم أطلقوا عليه الرصاص واقتلعوا عينيه ثم ألقوا به في النهر.
وبينما سعت السلطات لدفن الطفل فوراً حيث قتل بمسيسبي حين كان يزور أقاربه، طالبت والدته الأم بإرسال الجثة والتي كانت شوهت بالكامل لموطنه بشيكاغو.
وقد أصرت الأم على أن يظل الصندوق الخشبي الذي يرقد به ابنها مفتوحاً طوال مراسم الصلاة والجنازة حتى يرى الجميع ما تعرض له. لكن الجناة تم تبرئتهم في المحكمة، مما أثار المزيد من الغضب، وكانت تلك واحدة من الأحداث المهمة التي أشعلت حركة الحقوق المدنية. وفي عام 2017، صدر كتاب سجل اعتراف السيدة براينت أن أياً مما ادعته لم يحدث ولا كان يبرر مقتل الطفل.
ورغم بشاعة أحداث القتل التي جرت، الأسابيع الماضية، فإن قصة السيدة التي هددت رجلاً بأنها ستزعم أنه «يهدد حياتها» لا تقل ترويعاً، لأنها تعيد إنتاج ما ظن البعض، زيفاً، أنه قد صار ماضياً عفى عليه الزمن.
- كاتبة مصرية – عن “البيان” الإماراتية