خَيار الضَّم واستعادة فِلَسطين التّاريخيّة

بقلم: الدكتور ياسر عبدالله

إنّ إصرارَ دولة الاحتلال واستمرارِها في تنفيذ مُخطَّط الضَّم وِفق خُطّة ترامب الأمريكيّة يستدعي إعادة النظر بحِسابات القيادة الفِلَسطينيّة والأحزاب والحركات الفِلَسطينيّة، حيث أن انكشاف أطماع الاحتلال الاستعماري الاستيطاني بكل فلسطين التاريخية، يدفع الى التفكير مجددا بالمُطالَبة بتحرير فِلَسطين التّاريخية بمساحاتها الكاملة (27 ألف كم مربع)، بحُدودها التاريخية: من الشّرق الأردن وسوريا، ومن الغرب البحر الأبيض المُتوسّط، ومن الشّمال لبنان، ومن الجنوب مصر وخليج العقبة. بل وأكثر من ذلك، عبر المُطالَبة أيضًا بإعادة اليهود إلى البلدان التي أتوا منها وإلى منطقة الحكم الذاتي في شرق روسيا والتي عاصمتها مدينة بيروبيدجان (Birobidzhan) .

لقد قدّم الفِلَسطينيون تنازلاتٍ مؤلمة حين قبلوا الدخول بالتسوية السياسية التي بموجبها تم توقيع اتفاق (أوسلو)، حيث تأسس ذلك على القبول بجزء من أرض فلسطين لإقامة حكم ذاتي عليه على أمل تحوله لدولةٍ على حدود (1967) مقابل الاعتراف بدولة إسرائيل وسلام شامل يعُمّ المنطقة. إلا أنّ الحركة الصّهيونيّة التي خرجَت من عباءة الاستعمار والامبريالية وجبلت من طينتها أبَت أن تُعطي الفِلَسطينيين أدنى حُقوقَهم على هذا الجزءٍ من أرضهم الذي لا يتجاوز (22%) من مساحة فلسطين التاريخيّة؛ أيّ أن تنازُلَ الفِلَسطينيين عن (78%) من أراضيهم مُقابل السلام لم يقنع الصُّهيونيّة ولا حتى الإدارة الأمريكية، ولم يُحفِّز العالم على الضَّغط عليهِما لإعطاء الفِلَسطينيين دولةً على جُزءٍ صغير من أراضيهم.

إن فِلَسطين التّاريخية هي حقٌّ للشَّعب الفِلَسطينيّ، هي أرض آبائه وأجداده، وهي تاريخه وحضارته، وهي حقٌه الذي لا يسقط بالتّقادم ولا حتى بالاتّفاقيات وتسويات السّلام، فِلَسطين قلب بلاد الشام، وأولى القِبلَتَين للمُسلمين ومعراج النبي مُحمد صلّى الله عليه وسلم إلى السماء، ومهد السيد المسيح عليه السلام، ورغم ما شهدته هذه الأرض من غزوات ومعاركَ وحروبَ بقي الشعب الفلسطيني صامدا عليها، ولم تنفك صلته التاريخية بها، وبذا اكتسب شرعية وجوده عليها كحقيقة لا يمكن لأحد أن يتجاهلَها أو يتنكّر لها، وهو ما يؤكد أن لهذه الأرض شعب هو صاحبها اسمه الشّعب الفِلَسطينيّ .

ويأتي اليوم المشروعُ الصّهيونيّ التَّوسُّعيّ لضَمِّ أجزاء من الضّفّة الغربيّة إلى دولة الاحتلال التي اغتصبت واستولت أصلا على ما يقارب 78% من أرض فلسطين، ليجعلها تستولي على كل فلسطين التاريخية باسم ما يسمى ب”دولة إسرائيل” نافية لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بحرية على أرض وطنه، بل وماحية اسم البلاد، التي كانت تُسمى فِلَسطين. لكن كل ذلك لن يمحو اسم هذه الأرض من الوجود ولن يطمس التاريخ، فهذه البلاد كانت تسمى فلسطين، كما قال شاعرنا الكبير المرحوم محمود درويش، وستبقى تُسمّى فِلَسطين. وإنَّ مخطط الضَّمِّ الاستعماري الصهيوني التوسعي يحشر الفلسطينيين في الزاوية، ويضعهم أمام خَيارٍ واحد يتمثل بالعودة إلى خَيار تحرير فِلَسطين كاملةٍ من النهر الى البحر ومن الأرض إلى السّماء، ولا يعتقدن قادة الصهاينة ان غطرسة القوة تستطيع ان تنال من صمود وبقاء الشعب الفلسطيني على أرض وطنه، بل ان هذه الغطرسة وهذا الضغط يدفع الى الدفاع عن الوجود، والى التأكيد على عدم التّنازل عن أيِّ شِبرٍ من أرض فلسطين مهما كان الثمن، وقد امتحن الشعب الفلسطيني تاريخيا في المعارك الحاسمة، وبقي وصمد، وسوف يبقى مُرابطا صامدا صابرا على هذه الأرض حتى يرحل آخر صهيوني عنها؛ فإذا ما ذهبت القيادة الفلسطينية إلى هذا الخيار، كخيار صعب، فسوف يقف الشَّعبُ الفِلَسطينيّ بكافّة أطيافِه السّياسيّة والدينيّة خلفها.

وإذا كان الاحتلال وحلفاؤه وبعض أصحاب المشاريع التصفوية والمشبوهة يخططون للإبقاء على الانقسام الحاصل بين غزة والضفة، ويحاولون إغراء البعض بدويلة في غزة، فإن التعاطي مع هذه الطروحات والقبول بمثل هذه المشاريع هو مقتل لفلسطين، وبالتالي فهو يندرج في مصاف الخيانة العظمى. وإن الذي يُساوم على تُراب فِلَسطين وعلى القُدس ومقدساتها من أجل كيانٍ “آيديولوجيٍّ” مهما كانت مسمياته، يمارس دون أن يعي عمل الخيانة لفلسطين الأرض والحق والتاريخ والقضية، ولن يكتب لمشروعه النجاح، فالشعب الفلسطيني لن يقبل أبدا أن يكون مثل هذا الثمن البخس بديلا عن فلسطين التاريخية.

إن مخطط الضَّمِّ يُعيدُ الشَّعبَ الفِلَسطينيّ إلى مربع الصراع الأول، الى خَيار التحرر الكامل من الوجود الصهيوني، وثمة في التاريخ تجارب عالمية في التحرر من الاستعمار الاستيطاني يمكنها أن تشكل أُنموذجًا يحتذى في مواجهة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، مثلَ تجربة جنوب إفريقيا وإيرلندا وكذلك تجربة الجزائر التي تحرَّرت بعد (130) عاما من الاستعمار.

وسواء أراد المستعمر المحتل الصهيوني أم لم يرد، فإنه قد أعطى فرصة لدفن أوسلو ذات الـ 25عاما العجاف من تاريخ القضية، وهو بتماديه يعيدنا الى استذكار ما لحق بنا من نّكبة عام 1948 ونّكسة عام 1967، كما يعيدنا بالذاكرة الى بطولة شعبنا في معركة الكرامة، وإلى مقاومته وصموده في حرب بيروت عام 1982و إلى الانتفاضة الأولى وانتفاضة الأقصى، ليجعلنا نستذكر كل المآسي ونستجمع كل الطاقات للدفاع عن الوجود، عبر للذهاب نحو انتفاضةٍ ثالثة يتجند فيها كل شعبنا في كافة أماكن تواجده، يمكنا إن أحسن خوضها أن تزلزل أركان الكيان الصُّهيونيّ وتُقض مَضاجع إدارة ترامب الأمريكيّة وكل مُتخاذلٍ ومُتآمرٍ على القضيّة.

إن الموقف الفلسطيني الرافض لمخطط الضَّم والتحلل من الاتفاقيات والتفاهمات مع دولة الاحتلال والإدارة الأمريكية يشكل فُرصة تاريخية للخلاص من كل القيود التي كبلت حركتنا الوطنية التحررية، وهو فرصة لاستعادة ثِقَة الشَّعب بالقيادة، بل فرصة لإعادة الاعتبار للمشروع الوطني كمشروع تحرر كامل واستعادة فِلَسطين التّاريخيّة بأسرها.

عن Amer Hijazi

شاهد أيضاً

العرب وإسرائيل وبناء السلام الإيجابي

بقلم:د. ناجي صادق شراب الفرضية الرئيسية التي يقوم عليها البناء الإيجابي للسلام، هي العمل على …