بقلم: طارق طه
إذا كانت اتفاقية أوسلو حينها، فيها “بارقة أمل” لإقامة دولة فلسطينيّة، فتبددت كل الآمال اليوم بعد أن تضاعف عدد المستوطنين في القدس الشرقية وأراضي الضفة الغربية (253 ألف مستوطن عام 1993، 690 ألف مستوطن عام 2019)، فلماذا المكابرة والتمسك بالأدوات نفسها التي أكل الدهر عليها وشرب؟
إن تفكيك المستوطنات وإقامة دولة فلسطينيّة، في الحقيقة، لم يعد مطلبًا كافيًا، لأن ثورات الربيع العربي جاءت بشعار أوسع أفقًا وأشد حكمة وأكثر كرامةً؛ “هوية/ كرامة (عيش)، حرية، عدالة اجتماعية”، كلمات أبعد من المطلبيّة، وأكثر من القيميّة. المعركة هي على ولادة القيم الاجتماعيّة الإنسانية إذًا، وليست كما يختزلها صاحبنا بـ”إنهاء الاحتلال” والتي أسماها بالمعركة الأساسية. ومع عدول آخر صهيوني في العالم عن عقلية السيطرة والقوة، سوف تتحقق العناصر القيمية الثلاثة، وحينها سنعمل على شراكة إنسانيّة في وطنٍ واحدٍ يحقق العدالة الاجتماعية لكل سكّانه وعودة الذين طُردوا منه إليه.
الاحتلال لا ينتهي مع حلفاء صهاينة، ولا يمكن المطالبة بإنهائه وكأنه “مطلب” خاضع لقرار التطبيق من عدمه أو شرعي في دولة قائمة بقوة الاحتلال أصلًا. هذا مطلب “غير شرعي” على هامش الديمقراطيّة في إسرائيل وفي أحسن الأحوال تحشد الآلاف عربًا ويهودًا في تل أبيب للتظاهر من هناك “وتطالب بإنهاء الاحتلال”.
إن معركة التحرر الوطني تحتاج يهودًا ليسوا صهاينة، وهؤلاء شركاء شعبنا وأنصار قضيتنا، ويدفعون ثمن ذلك في مجتمعهم، لكن ثمة شيئًا خطيرًا يلوّح به رئيس القائمة المشتركة، أيمن عودة، ويمهّد الطريق أمام شعبنا لمرحلة قادمة من سقوط آخر، مستشهدًا بما أفرز مؤتمر الحزب الشيوعي الإسرائيلي الـ25، “هناك صهاينة يتخذون مواقف سليمة في قضية سياسية أو اجتماعية عينية. ومن هنا الإمكانية والحاجة إلى العمل على وحدة الصف بغض النظر عن الفروقات الأيديولوجية”، لم يكتف بفشل شعاره الانتخابي “إسقاط اليمين”، إلا أنه يحاول اليوم استغلال ظروف الخطة الاستيطانية المسماة “الضم” لخلق قاعدة تسمى “شركاء الرفض” وإن كانوا صهاينة وضباط جيش متقاعدين وسياسيين صهاينة، لا يعترضون أصلًا على احتلال الأراضي الفلسطينيّة والاستيطان لكنهم يعترضون على مخطط “الضم” لأنه يشكل خطرًا على ديمقراطيتهم الإثنية والأغلبية اليهودية، فلا مشكلة له معهم في “توحيد الصفّ بغض النظر عن الفروقات الأيديولوجية”.
ولعلّه يقتنع، أنه لا يمكن تحقيق المساواة، طالما لم تدرك المؤسسة أن تحقيقها لا مناص منه خوفًا من خوض معركة المساواة، وللأسف إن عثرة تحقيق المساواة تكمن في عدم رغبة المُنادي بها من خوض المعركة. ونستنتج في هذه المرحلة أن المؤسسة والمستنجِد بها اجتمعا على ضرورة عدم خوض معركة المساواة، إذًا هي بالضرورة لن تتحقق.
إن هامش الديمقراطية الإثنية في إسرائيل قد يسمح بالتظاهر والمطالبة والرفض، لكنه بالتأكيد لن يسمح للأقلية الأصلانية بالتأثير، وكل من يبيع الأوهام في سوق الناخبين، إما أنه مقتنع بما يبيع أو أنه مدرك بحتمية خسارة تجارته لكنه يؤجل موعد إعلان الإفلاس.
إسرائيل ترى العدالة كما رآها أرسطو، لا عدالة في المساواة، أو بكلمات أخرى، العدالة هي التفاوت، لذا إن المطالب السياسية الاجتماعية التي يؤسس لها وعليها التيار الاندماجي، ستسقط سقوطًا مدويًا على المدى القريب، لأنه سيفشل بالتأثير أولًا، وسيُصدم بحقيقة إخضاع المساواة التي يريدها تحت شروط التفاوت ثانيًا.
ونسأل السؤال، لماذا يسعى الاندماجيون لإنهاء الاحتلال وتحقيق الدولة الفلسطينية؟ ببساطة لأن حل القضية الفلسطينية هو عبء ضميري وهو الحاجز الأخير بين السعي نحو الأسرلة عند هؤلاء وبين الإعلان عن المواطنة الناقصة مسلوخة القيم والهوية القومية.
لذلك، إن مطلب إنهاء الاحتلال وإعلان الوصول إلى الحل أو الإيهام بأن الصراع بطريقه إلى الحل، من خلال بوادر إقامة دولة فلسطينية، يتضح أنه الطريق إلى الانحلال وليس الحل.
إذا سعت المؤسسة الإسرائيلية يومًا لتحقيق القيم المذكورة فستحرص على تطبيقها ضمن مسطرة التفاوت القومي – الإثني التي ذكرناها سلفًا. إذًا كل مبادرة تسعى لتحقيق هذه المفاهيم تمر عبر مؤسسات دولة إسرائيل والتحالف مع شخصيات وحركات صهيونية، هي محاولة دائمة لتأجيل إعلان فشلها. ومطلب المساواة من خلال طرحه برغبات الأسرلة والاندماج هو التشويه بعينه للهوية الفلسطينية.
المساواة مسلوبة البعد القومي في دولة اليهود، هي المساواة الناقصة، والعدالة الاجتماعية من دون فهم دولة المواطنين معدومة، والحريّة مستحيلة مع القبول بسلخ البُعد القومي عن تعريف المساواة. لذلك المعركة الأساسية هي على “الهوية القومية والمواطنة الكاملة”.
إن المساواة المقبولة على اليسار الصهيوني، هي المساواة بين الأفراد (مساواة فردية) وعلى صعيد تكافؤ الفرص في نظام الديمقراطية الليبرالية، ووحدة القياس في هذه المعادلة هي المواطن، وفي أحسن الحالات يُقبل فيها المواطن غير اليهودي كصاحب امتياز فردي بمعزل عن كونه جزءًا من جماعة لها حقوق قومية، وهذا يعدينا إلى تعريف المساواة، ويُدخلنا في صراع مع الحركة الصهيونيّة وليس كما أفرز البيان السياسي لمؤتمر الحزب الشيوعي المذكور، بأنه قد يلتقي الفلسطيني والصهيوني على رأي ما، وفي هذه الحالة “يجب العمل على توحيد الصفّ بغض النظر عن الفروقات الأيديولوجية”.
مشروع المساواة الكاملة يعني الصدام مع الصهيونيّة، كمشروع ونظام ودولة، ولا تقاطع طرق بينهم، وقد أشار د. عزمي بشارة في كتاب “الخطاب السياسي المبتور” إلى أن “مشروع دولة المواطنين في مواجهة واقع دولة اليهود هو مشروع هجومي يطالب بالحقوق كاملة غير منقوصة دون اعتذار، ودون حاجة للمساومة على الولاء السياسي مقابل هذه الحقوق”.
يا صاحبنا، إن “الهوية والحرية والعدالة الاجتماعية”، لها طريق آخر، أبعد من ساحة رابين، وبالطبع لن يمر من تل أبيب. قد تتحول الهوية القومية إلى فلكلورية مثل حفظ أشعار المتنبي، لكنها تبقى نصف هوية وليست تحررية مناهضة للصهيونية.
عن “عرب ٤٨”