جواد بولس
تمنى البعض أن تتحول قضية صفقة بيع مئات الدونمات من أراضي الكنيسة اللاتينية في مدينة الناصرة الى ملف يشغل الرأي العام العربي المحلي، وإلى شاغل يستقطب اهتمامًا جماهيريًا واسعًا، أو على الأقل نخبويًا وقياديًا لافتًا، إلا أن ذلك لم يحدث على الاطلاق؛ فباستثناء فورة احتجاجية عارضة وضامرة أثارها بضع عشرات من رعايا هذه الكنيسة العرب، لم يقترب منها أحد ولم تسترع تفاصيلها غيرة الناس، لا سيما المسيحيون منهم، ولا حتى فضولهم.
تاريخ صفقات بيع أوقاف الكنائس، على اختلاف تسمياتها، في بلادنا طويل ومستفز؛ وسيبقى نزف هذه “الأرض المقدسة” فوّارًا ومرهقًا، خاصة وجميعنا يعرف من كانوا المتورطين في هذه التسريبات وهذا التفريط المذهل، سواء من رجالات اكليروس أو من منتفعين وسماسرة مدنيين ورجالات إدارة تنفذوا في ظلام أروقة تلك الكنائس؛ ونعرف كذلك من كان المستفيد من هذه البيوعات وفي حسابات من أودعت ريوعها.
لقد حاولت، في الماضي، بعض الجهات والمؤسسات والشخصيات الغيورة، من رعايا معظم الكنائس الكبيرة في البلاد، التصدّي لأولئك العابثين برقبات الأوقاف وفضح فسادهم وكشف معاصيهم؛ لكنهم، رغم ما نشروه، من حقائق مثبتة وبيّنات دامغة بحق من كانوا شركاء في تلك الصفقات، فشلوا، مرة تلو الأخرى، بإقناع أولي المكانة والقدرة بملاحقة الجناة وبمحاكمتهم. فشلوا وبقوا، مع ملفاتهم، أسرى لليأس وللحسرة وشهودًا على كيف تولد في مطارحنا الهزائم وكيف يبقر أمام أعينهم الحق ويتسيّد الباطل.
لا أستدعي هذه الغصة إلا لأستنفر مرة أخرى ذلك السؤال الذي يؤرق كل متابع لتفاصيل هذه الملحمة، فلماذا وكيف نجح الجناة ومعاونوهم بالبقاء في مناصبهم وبالنجاة من المحاسبة ومن العقاب؟
لقد تطرقنا في الماضي لجملة من المسببات التي أفضت إلى تلك الخيبات والكوارث ؛ فمن يتحكم في أملاك معظم هذه الكنائس هم على الغالب أكليروسات غريبة عن البلاد وعن أهلها، ومعظمهم يتصرفون باستعلاء استعماري قبيح تجاه الكهنة العرب أنفسهم وتجاه أبناء الكنائس “المحليين”. يفدون إلينا من دولهم خدّامًا لمشاريعها ولا تربطهم مع تراب بلادنا وشرقنا أي مشاعر انتماء حقيقية، فلا يعنيهم كونه وطنًا لنا بل هو عندهم مجرد مكان يؤسسون عليه رواياتهم الدينية الضيقة وحسب.
بعضهم يستغل مشاعر المؤمنين البسطاء الصادقين الذين يرفضون تصديق أي تهمة توجه لرسل الكنيسة “الأطهار”، ويعارضون مساءلتهم باصرار؛ وآخرون يتحالفون مع عملاء محليين فيشترون ذممهم بالمال أو باقتسام المنافع.
لقد أدّت هذه العلاقة المرضيّة إلى ولادة حالة من التنافر والاغتراب المزمنين بين الكنائس ومن يحميها وبين اتباعها، خاصة بعد أن عزّزها عاملان محليان لم يكونا أقل خطورة منها؛ فاعتبار قضية الأوقاف المسيحية، من قبل حكومات الدول العربية، مسألة كنسية خالصة، سوّغ، عن جهل أو عن قصد، لأرباب تلك الكنائس إمكانية التصرف المطلق بها، وأجاز لهم فرص تسريبها المعلن حتى لو تعارضت تلك البيوعات مع مصالح الدول الحقيقية أو مع مصالح المؤمنين العرب ومشاعرهم الوطنية؛ ثم تضافرت في العقود الأخيرة تداعيات هذه الحالة مع تزايد مشاعر الخوف بين السكان المسيحيين العرب خاصة عندما اعتبرتهم بعض الحركات الإسلامية السياسية المتزمتة الناشئة مثلهم مثل “أعداء الأمة الصليبيين” ، فعُدّ كل المسيحيين في الشرق والغرب همّاً، وجميعهم ،عند هؤلاء ،أبناء جزية صاغرون وللاسلام أعداء.
خوف العرب المسيحيين، المبرر أحيانا وغير المبرر أو المصنّع في أحايين أخرى، دفع الكثيرين منهم أما إلى الهجرة أو إلى اللجوء لتلك الكنائس وللاحتماء باثواب كهنتها الذين انبروا بدورهم يغذّون هذه الظواهر بخبث وبنهج متعمد ومدروس، وفي كلتا الحالتين، الهجرة أو التذلل، لم تعد املاك الكنائس وأوقافها تعنيهم، ولا الدفاع عنها واجبهم.
لقد قرأنا بيان البطريركية اللاتينية حول ما دفعها لبيع ثلاثمائة دونم من أراضي مدينة الناصرة لمستثمر عربي من الجليل، وكان تبريرها المعلن يشبه إلى حد بعيد ما ورد في بيانات معظم الكنائس الأخرى حين استعان رؤساؤها بذريعة وجود ديون كبيرة على كنائسهم تضطرها لبيع بعض ممتلكاتها لسداد تلك الديون.
إنها أعذار تفوق بقبحها ذنوبهم؛ لكنني، رغم ذلك، تساءلت من كان مفترضًا وقادرًا أن يلاحق رجالات الكنيسة اللاتينية، كهنة أو موظفين إداريين، ومن هم المعنيون بالكشف عن خلفيات هذه الصفقة أو غيرها، ولأجل أي هدف؟
لم يقف في العقود الماضية سوى قلة ضد بيوعات أملاك الكنائس في مواقع أهم من موقع هذه الصفقة، ولن يقفوا اليوم ولا غدًا؛ فقيادات أحزابنا السياسية والمؤسسات المدنية والحركات الدينية تخلت تاريخيًا عن دورها في هذه القضية الحارقة ولم تتحرك حين ضاعت الأملاك في مواقع إستراتيجية في القدس ويافا وعكا وقيساريا وحيفا وطبريا والناصرة وغيرها. لقد شجعت مواقف هؤلاء القادة رؤساء تلك الكنائس وعملاءهم المحليين على الاستمرار في تسريب العقارات وبيعها، كما نشر مرارا وتكرارا.
بالمقابل لم يستطع العرب المسيحيون، ولن يستطيعوا لوحدهم، أن يمنعوا التفريط بالاوقاف والتصدي للتآمر الخطير عليها؛ فاذا ما حيّدنا أسباب خوفهم وخيبتهم ودوافع عزوفهم عن الانخراط في مقاومة هذه البيوعات، سنجد أنهم غير قادرين موضوعيًا للقيام بهذه المهمة، وذلك بسبب قلة أعدادهم وتشتت انتماءاتهم الكنسية، فعددهم في إسرائيل لا يتعدى المائة وثلاثين ألف نسمة (وفي فلسطين الخمسين ألف نسمة)؛ وهم موزعون على حوالي خمس عشرة كنيسة، ويسكنون في حوالي عشرين مدينة وقرية، يقع معظمها في شمال إسرائيل، فعلى الرغم مما يقال في صالح التسامح بين الديانات ومصير الإخوة المشترك تبقى هذه مجرد فقاعات وهمية وزركشات عابرة، فالحقيقة هي، أن العرب المسيحيين في فلسطين، تحولوا إلى مجموعة سكانية هامشية، أو إن شئتم لمجرد حمل زائد على مسرح البلاد المضطرب.
لم تبدأ القضية مع صفقة الناصرة الحالية ولن تنتهي بها؛ فما يجري في هذه الساحة وقضية تناقص أعداد العرب المسيحيين في منطقتنا هي في الواقع عوارض تشي بوجود حالة مستعصية وخطيرة عنوانها كان وسيبقى: مصير الوجود المسيحي العربي في فلسطين تحديدًا وفي الشرق عمومًا.
لقد وصلني بالتزامن مع اندلاع قضية بيع الأراضي في الناصرة نداء أطلقه كل من غبطة البطريرك ميشيل صباح، الكنيسة الكاثوليكية/ اللاتينية، ونيافة المطرانين منيب يونان، الكنيسة اللوثرية، ورياح ابو العسل،الكنيسة الانجيلية؛ يعلنون فيه موقفًا واضحًا من ضرورة التزام اسرائيل بقرارات هيئة الأمم المتحدة وإنهاء الاحتلال الاسرائيلي واستعمارها للاراضي الفلسطينية، ويعبّرون عن قلقهم من استمرار معاناة ابناء شعبهم الفلسطيني ومن الظلم الواقع وغياب العدل عن ارض السلام، ويناشدون العالم بضرورة العمل من اجل إقامة دولة فلسطين المستقلة.
انه نداء هام ولافت وواضح أطلقه ثلاثة من رجالات الدين الفلسطينيين المسيحيين الأجلاء. وبمقدار كونه هامًا بما حمل، فهو كذلك لافت بما غاب عنه؛ إذ لم يتطرق البيان إلى قضية بيع الأراضي ولا إلى ما أوردته الكنيسة كذريعة لإبرام الصفقة.
نعرف البطريرك صبّاح كانسان جريء ومستقيم وواضح، واعتقد ان عدم تطرقه في ذلك البيان أو في بيان غيره لقضية الصفقة ولما سبقها من مظاهر فساد في مشروع البناء في كنيسة عمان، وفي صفقات أخرى، لم يكن إلا من باب حرجه ومشاعره تجاه إدارة كنيسته في روما.
إنها مفارقة وقد تكون هامشية، لكنها حتمًا هزة تذكرنا مجددًا اننا قاب غفوة أو اقرب من النهاية، فجلاء المسيحية العربية عن الشرق قد حسم وحتى لو بقيت بعض آلافهم في فلسطين الكبرى، إلا أن هؤلاء لن يشكلوا أي مركب سكاني ذا وزن اجتماعي ومعنى، بل سيكون بقاؤهم كما قلنا مرة، ” كمحميات بشرية طبيعية” ستشهد على جزء من تاريخ المكان الدارس، أو بقاء أفراد ومجموعات صغيرة منهم تستعرض في المستقبل كأحفورات تنطق باسم ما ومن كان هنا.