بقلم: الدكتور باسل غطاس
نواجه ظروفا معقّدة وشائكة على كل المستويات الشخصية والمجتمعية الاقتصادية، وتتراجع القضيّة السّياسيّة إلى الخلف وتتراجع، معها، القيادة والمؤسسات أداءً وموقفًا خاصّة وأن كل تقييدات الوباء تضيّق المساحة المتاحة للحراكات الاجتماعية والجماهيرية.
وذريعة الإغلاق هذه ممتازة أصلًا عند من لم يعبّئ الجماهير لفعل نضالي جماهيري مثابر لا في قضايا هدم البيوت والتشريد في النقب ولا ضد العنف المجتمعي والجريمة المنظمة ولا ضد الاحتلال والعنصرية ونظام الفصل العنصري.
تجد الأحزاب والمؤسسات الفاقدة لبرنامج كهذا في الأوضاع الحالية فرصة وحجة للاستكانة والاستسلام للأمر الواقع والاكتفاء بالفعل البرلماني والمنازلات على شبكات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت، مع الأسف، ساحةً لتفريغ كل موبقاتنا الاجتماعية والطائفية ومصرفًا لأمراضنا ليس لأنّ مجتمعنا مختلف عن باقي الشعوب والمجتمعات، وإنّما لأنه عندما يغيب – أو يضعف لدرجة الوهن – المشروع الوطني الجماعي والفكر الاستراتيجي الجمعي نتيجة غياب مؤسسات قومية جامعة ومقتدرة، تزدهر المشاريع الفردية والانتهازية التي تقدّس النجاح الشخصي ويرتفع منسوب “المحلّويّة” والتعصب والانتماءات العضوية التي تنضح لاحقا عبر الشبكات الاجتماعية بكل ما فيها من قبح وكراهية.
لدي يقين أن هناك الآلاف من خيرة شبابنا النشيطين في مختلف مجالات الفعل العام تشاركني هذا الشعور، والذي ينتهي عند الغالبية بالإحباط. منذ سنوات يتظاهر ناشطو العمل السياسي على مفارق الطرق الرئيسية بضع عشرات وتجد نفس الوجوه، حتى المظاهرات ضد الهدم لم تعد تجذب الآلاف، بينما كل مناسبة اجتماعية أو دينية تكتظ بآلاف المشاركين. كذلك أصبحت الحركات والجمعيات النسوية أقل حضورًا وأقلّ قدرة على تجنيد المشاركات/ين والنشيطات/ين (يعتبر حراك “طالعات” استثناء في السنة الأخيرة ولكن قد يفقد هو أيضا بريقه في لُجّة هذه العتمة). ويلح السؤال على كل واحد من هؤلاء الآلاف ماذا يمكن أن أفعل لتغيير هذا الواقع وبالأخص الآن في فترة كورونا؟ هل نستسلم جماعيا وماذا أستطيع أن أقدّم أنا الفرد، سواءً كنت طالبا جامعيا أو عاملا أو موظفا أو متقاعدا لكي لا نصبح مثل العيس في البيداء “سارحة والرب راعيها”؟
هذه التساؤلات لا تقفز عن أحد، خاصّة من الناشطين السياسيين، سواءً كانوا أعضاء أحزاب أو ناشطي جمعيات أو من نشطاء الحراكات الشبابية، وتقضّ هذه الأسئلة مضاجع الجميع في سؤال واحد يراود الجميع: ما العمل؟
لنبدأ بالقول إنّ هناك ما نعمله الآن، وحقيقة أن المظاهرات تتّسع وتشتدّ في الشارع اليهودي وتأخذ طابعا عنيفا تثبت أنه رغم كورونا فهناك إمكانية للتظاهر والاحتجاج وممارسة حق حريّة التّعبير. ومع الفوارق الكبيرة إلا أن المقصود هو أنّ تقييدات كورونا ليست عائقا لمن ينوي ويريد العمل، حيث أني بدأت هذا المقال بتشخيص وضعنا الشائك فلا أطمح هنا أن أقترح حلولا سحرية فهذه غير موجودة، ومجرّد التفكير بأن هناك حلولا سهلة سيزيد الإحباط واليأس، لذلك سأتحدث عن قضية واحدة أرى أنها من أهم مسببات واقعنا المعقد والشائك.
أعتقد أن من المستجدات غياب أو تلاشي التيار الوطني الديموقراطي خطابا وحضورا مميزا وفاعلا على الساحة. وأنا أتوخى الدقة في استخدام المصطلحات، فقد استخدمت مفردة “تيار” بالمعنى الواسع للكلمة، أي ليس إطارا معرّفًا كحزب أو أي مؤسسة أخرى، وإنّما كل من يرى نفسه حاملا للرؤية الوطنية من حيث انتمائنا وهويتنا الفلسطينية وطبيعة صراعنا مع الصهيونية كمشروع استعماري ومناهضتنا للعنصرية وخاصة تجلياتها في الدولة اليهودية؛ وفي نفس الوقت وبنفس الدرجة، حاملًا للفكر والقيم الديموقراطية ويرى في تحرر الإنسان العربي هنا وفي العالم العربي، وخاصّة تحرّر المرأة وحقوقها ورفض كل أشكال التعصب الطائفي والتخلف الاجتماعي نبراسا لا يمكن بدونه الانتصار في القضية الوطنية.
هذا التيّار يشمل، كما أرى، أفرادا من اتجاهات عديدة، محزَّبين وغير محزَّبين ومؤسسات وجمعيات ووسائل إعلام وحراكات محلية عديدة.
السؤال هو كيف من الممكن أن يقوم هذا التيار بدون تشكيل حزب وبدون أن يكون بديلا أو منافسا لأي من المنضوين داخله وإنما بالعكس تماما أن تكون هناك مصلحة للجميع في بناء التيار والانضواء تحته، وأن يتحول إلى نهر تصب فيه كل الجداول والينابيع المتفرقة؟
هل يمكننا تجاوز التفكير النمطي القديم في التنظيم وابتكار شيء جديد بعد دراسة تجارب أخرى في العالم العربي والعالم، خاصة بعد نجاح الحراكات الشعبية التي قادت الملايين في لبنان والعراق والجزائر والسودان والاستفادة منها؟
هل يمكن أن يتطور حراك قاعدي وغير مركزي وبدون تراتبية هرمية يبادر إليه عدد من المخلصين الحريصين وخاصة من بين الشباب والنساء حتى تبدأ كرة الثلج تتدحرج؟ هل يمكن للمبادرين أن يضعوا هذه الرؤية المبدئية من خلال اقتراح ورقة مبادئ تشكل قاعدة فكرية وقيمية لهذا التيار؟ وكذلك هل يمكنهم، عبر دراسة تجارب جديدة، ابتكار أساليب تنظيمية جديدة غير مركزية تحتوي الجميع وتتقي أمراض التنظيمات الحزبية وغيرها وخاصة درء مخاطر (مفاسد) الرغبة بالتزعم والسيطرة والبروز سواء من قبل أفراد أو مؤسسات؟
الهدف أولا وقبل كل شيء هو الجوهر الذي لا يجب ألا يضيع في خضم كل هذه التساؤلات التي تدور في رؤوس الكثيرين، تعظيم دور وحضور وتأثير الفكر الوطني الديموقراطي في بناء وتعزيز الهوية القومية والانتماء وعلى أسس من الفكر الديموقراطي الحر، والإيمان بأنه عبر ذلك من الممكن خوض غمار التغيير في واقعنا المعقد والشائك. لا يمكن لهذا التغيير أن يحصل بدون الاشتباك مع قضايا الناس والمجتمع اليومية والدخول إلى ميادينها بكل قوة، ابتداء من قضايا العنف وخاصة العنف ضد المرأة وحتى قضايا محاربة التخلف الاجتماعي وتعزيز دور المبادرة والتقدم نحو بناء المؤسسات.
هذا التيار بخطابه الديموقراطي والإنساني، هو أيضًا الأقدر على الحوار والتعاون إلى درجة التحالف مع اليهود المناهضين للصهيونية وممارساتها العنصرية.
يمكن اعتبار هذه دعوة جادة ومن القلب والعقل لهكذا تحرك.
* أسير محرر ونائب سابق – عن “عرب ٤٨”