بقلم: حيدر عيد*
يبرز على السطح هذه الأيام، جدل الحلول السياسية المناسبة للقضية الفلسطينية ومدى قدرة هذه الحلول على تحقيق الحد الأدنى من الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني بكل مكوناته، فما بين مؤيدي ومؤدلجي حلّ الدولتين وأنصار حل الدولة والمدافعين عن حلّ “اللاحل”، يدور نقاش مثمر في بعض الأحيان، وسفسطائي في الكثير منها، ومن الملاحظ انتقال بعض أهم الأصوات المنادية بحل الدولتين إلى الصف الآخر، بسبب سقوط هذه الحل، سقوطا مدويا، فخيار الدولة المستقلة أصبح مستحيلا لأسباب عدة منها اتخاذ إسرائيل خطوات عملية على الأرض لإنهاء هذا الخيار من تحويل المستوطنات، بعد توسيعها، إلى مدن وزيادة عدد المستوطنين إلى أكثر من نصف مليون، وبناء جدار الفصل العنصري، وتوسيع القدس الكبرى، وعملية التطهير العرقي الممنهجة فيها، وتحويل قطاع غزة إلى أكبر مركز اعتقال على سطح الكرة الأرضية، بموافقة ومشاركة دولية وعربية، ناهيك عن قيام إسرائيل بتوجيه رصاصة الرحمة لهذا الخيار من خلال طرح “خطة الضم” المكملة لصفقة القرن الأميركية، واللتان تنهيان بالكامل، أي أمل بتحقيق ما يُسمى بالدولة الوطنية على جزء صغير من أرض فلسطين التاريخية.
و الحقيقة هي أن أي قراءة دقيقة لمقالات و تصريحات أصحاب حل الدولتين الأخيرة، تبرز مدى الخلط، وأحيانا التشويش البوست كولونيالي، بين مفهومَي الاستقلال والتحرير؛ فالاستقلال، برموزه المتعارف عليها، لم يكن في يوم من الأيام ليشكل إشكالية لكثير من القوى الاستعمارية، فنظام الأبارتهايد العنصري كان مصّرا على منح السكان الأفارقة “استقلالا” شكليا في عدة دول أطلق عليها حرفيا لقب؛ “أوطان مستقلة!”.
تاريخيا، كان حصر القضية الفلسطينية والأهداف النضالية في “حلم الاستقلال”، أي إقامة الدولة، قد بدأ يأخذ أولوية غير مسبوقة في العقود الثلاثة الماضية، إذ إن الهدف التحرري أصبح ينحصر في النضال من أجل إقامة “دولة فلسطينية مستقلة” منزوعة السلاح على نمط المعازل الجنوب أفريقية سيئة السمعة، والتي لم تنل أي اعتراف دولي إلا من إسرائيل. وبمعنى آخر، إن الشرخ العامودي في الوعي النضالي الفلسطيني، من خلال عملية تصنيم لفكرة الدولة على حساب التحرير وإسقاط حق العودة، والتكرار الممل لمعزوفة “المشروع الوطني الفلسطيني”، أصبح يتصادم بالضرورة مع تطلعات الغالبية العظمى من أبناء الشعب الفلسطيني من حيث كونهم لاجئين، كفل القانون الدولي حقّ عودتهم. و هذا يحتم علينا طرح البديل، عوضا عن انتظار ما يفرضه علينا “المجتمع الدولي” و/ أو دولة الأبارتهايد والاستعمار الاستيطاني، فمنطق القبول التنازلي بدُوَيلة على 22% من أرض فلسطين التاريخية، يعتمد أساسا على أن هذا ما يريده “المجتمع الدولي”، وهو نفس المجتمع الذي أخذ عقودا من الزمن، للوقوف ضد نظام الأبارتهايد، لولا صمود ومبدئية الحركة المناهضة للعنصرية في جنوب أفريقيا وحلفائها.
وكانت بذور أيديولوجيا “الاستقلال” قد بدأت بالنمو المتسارع مع تحول الوعي الوطني الذي كان يشكل تيارا سائدا إبان الانتفاضة الأولى إلى وعيٍ زائفٍ، نتاج عملية انزياحات طبقية و انتشار ثقافة استهلاكية، وصولا إلى تصنيم فكرة الاستقلال حتى لو كان ذلك في معزلٍ عرقي، أو معسكر اعتقال شبيه بأوشفيتس، وبروز ثقافة فصائلية غير مسبوقة ترى أن تعريف الوطنية، و/أو التدين، يكمن في الدفاع عن الفصيل المهلهل أيديولوجيا أحيانا، والمتزمت أحيانا أخرى. وأصبحت الألقاب الاجتماعية، و”أرقاها” لقب وزير، والحصول عليها؛ الهّم السائد بالنسبة للنخب الطبقية التي أجمعت على برنامج حل الدولتين الإقصائي، رغم تخليه عن حقَّي العودة والمساواة، والادعاء أن الدفاع عن “المشروع الوطني” و/أو “الحكومة الربانية”، يتطلب التضحيات من الطبقات المحكومة، والمسحوقة في كلا الحالتين.
من المُلاحَظ في هذا السياق، قبول جناحي اليمين الفلسطيني بدولة مستقلة على جزء صغير من فلسطين. وهكذا نجح وهم الدولة الفلسطينية المستقلة، بخلق حالة غير مسبوقة لأي حركة تحرر وطني في الدول التي عانت من الاستعمار، الاستيطاني منه بالذات، من حيث التخلي عن حقوق ثلثي الشعب، وما ولّده هذا الوهم من رموز عملت على تعزيزه كأيديولوجيا عقائدية غير قابلة للنقاش! وبالمنطق الفانوني، إن انزلاقات الوعي الوطني في الحالة الفلسطينية قد بدأت حتى قبل انسحاب قوات الاستعمار وتسليمها السلطة “الوهمية” لجزء من أبناء البلد الأصلانيين.
والحقيقة أن الإصرار العدمي على أن الدولة المستقلة على حدود 67، هي التجسيد العملي لحق تقرير المصير، بل الحل “الواقعي” الوحيد، على الرغم من فجاجة الطريقة التي تم تصفيته بها من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل؛ دليل على ضرورة تجاوز هذا الخطاب السائد، كليا.
مرة أخرى، إن الاستفادة والتعلم من تجارب الشعوب التي ناضلت ضد الاضطهاد ليس عيبا، بل هو واجبٌ وطني. فجنوب أفريقيا تعلمت من الجنوب الأميركي ونضال الأفارقة الأميركيين ضد قوانين جيم كرو، ومن إيرلندا الشمالية التي استفادت بدورها، من النضال الهندي والجزائري…، مع الاحتفاظ بالخصوصيات النضالية المحلية. ومن المعروف أن أقرب التجارب النضالية شبها بالكفاح الفلسطيني هي تجربة الحركة المناهضة للتفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، وبالذات في مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي، حيث تكثف النضال المدني والمقاومة الشعبية المصحوبين بحركة مقاطعة دولية هائلة، ما تسبب في المحصلة النهائية، وبعد تراكمات عدة، بالقضاء بشكل كامل، على نظام التفرقة العنصرية. وكان التناقض الرئيسي وبرؤيةٍ سياسيةٍ واضحة، مع نظام الأبارتهايد، على الرغم من محاولات ذلك النظام، جعله تناقضا ثنائيا أقل أهمية من التناحر بين حزب المؤتمر الوطني الأفريقي و حزب الحرية (إنكاتا).
وتعددت أشكال النضال ولكن تم التركيز على ما يصيب النظام العنصري في الصميم حيث أن المرحلة التاريخية في ذلك الوقت، تطلبت تعبئة الرأي العام الدولي، ودعوة مؤسسات المجتمع المدني، للتدخل لصالح المضطهَد ومقاطعة المضطهِد. لم يكن هناك أي تعال نخبوي أو احتكار للأساليب النضالية، ولم يُنظر للقضية من منظارٍ أيديولوجيٍ ضيق ينفي أي رؤيةِ أخرى.
اما الدفاع عن حل الدولتين العنصري على أنه الوحيد المتاح في ظل موازين القوى السائدة، والتهديد فقط بطرح حل الدولة الواحدة، مع الخلط بين حل الدولة الديمقراطية وحل الدولة ثنائية القومية، كفزاعة ليس فقط لإسرائيل، بل أيضا لنا سكان الأرض الأصليين. أو أن حل الدولتين لا يزال برنامجا مرحليا مناسبا إلى سقوط أيدولوجي مدوٍ، في مستنقع تبرير ما لا يمكن تبريره، حيث أنه لا يلبي الحد الأدنى من الحقوق الأساسية بما فيها حق تقرير المصير لكل أبناء الشعب الفلسطيني، كما عرفه الميثاق الوطني، وهو نابع عن عدم الإيمان بقوة الشعب والتضامن الدولي الجماهيري في إحداث تغييرات ثورية على نمط ما حصل ضد نظام التفرقة العنصرية.
يكمن التحدي الآن في الوصول لحالة من الإجماع على عدم التنازل عن أي حق من حقوقنا الأساسية، وعدم وضع أحدها في مرتبة أعلى من الأخرى. و يبدو أن هذا ما تعجز التيارات السياسية السائدة عن تحقيقه في محاولتها للإجابة على سؤال “ما العمل؟”، وذلك نابع من خلط أيديولوجي طبقي لمفهومي الاستقلال، من ناحية، والتحرير، من ناحية أخرى.
إن كفاح الشعب الفلسطيني والتضحيات الجسام التي قدمها منذ بداية القرن الماضي، حتى اللحظة، هو سعي حثيث نحو تحرير الأرض والإنسان، في مواجهة استعمار استيطاني إحلالي، شكل منذ نشأته خطرا وجوديا على سكان الأرض الأصلانيين.
* محلل سياساتي في شبكة السياسات الفلسطينية “الشبكة” – عن “عرب ٤٨”