تعقيبًا على امكانية فتح كليات طب جديدة في فلسطين

24 أغسطس 2020آخر تحديث :
تعقيبًا على امكانية فتح كليات طب جديدة في فلسطين
تعقيبًا على امكانية فتح كليات طب جديدة في فلسطين

بقلم:البروفيسور هاني عابدين/ عميد كلية الطب ووزير الصحة الأسبق

“استرعى انتباهي اعلان نشرته احدى الجامعات الفلسطينية حول بدء القبول لتخصص الطب البشري فيها، والذي كما علمت يتزامن مع قيام الحكومة الفلسطينية بدراسة إمكانية منح تلك الجامعة وغيرها الترخيص بفتح كلية طب فيها.

انني وإذ سأمتنع عن التعليق حول مدى جواز قيام الجامعات بفتح القبول لتخصصات جديدة قبل الحصول على الأذونات والتراخيص الرسمية من جهات الاختصاص تاركًا الأمر لتلك الجهات للتعقيب عليها، فأنني وانطلاقًا من مسؤوليتي العلمية والطبية كعميد لأول كلية طب بشري في فلسطين، وكطبيب يمارس هذه المهمة النبيلة منذ أربعة عقود، وكوزير صحة سابق، وكمواطن حريص على المحافظة على جودة الطب في بلدنا العزيز، اود تسجيل مجموعة من الملاحظات حول جدوى فتح كليات طب جديدة في فلسطين، لا اقصد بها جامعة بعينها، وانما اتناول المسألة من حيث المبدأ وبمنظور موضوعي مبني على ما راكمناه من خبرات في هذا المجال الحساس، آملًا من جهات الاختصاص اخذها بعين الاعتبار في خضم دراستها لطلبات فتح كليات طب جديدة في فلسطين:

اولًا: عدد كليات الطب في فلسطين يفوق حاجتها بأضعاف، ويجعل من فلسطين من أكثر دول العالم كثافة بعدد كليات الطب مقارنة بعدد السكان وعدد طلبة الثانوية في الفرع العلمي وفقًا للمعايير العالمية.

ثانيًا: رفع عدد كليات الطب سيؤدي بالضرورة الى رفع عدد الأطباء العامين كل عام بشكل متسارع يفوق بأضعاف حاجة المجتمع الفلسطيني، وسيجعل عدد الأطباء في فلسطين من الأعلى في العالم مقارنة بعدد السكان، مما سيفاقم ازمة شح فرص العمل او اكمال التخصصات القائمة حاليًا في مجال الطب، مما سيؤدي اما الى هجرة الأطباء الى الخارج، وهو ما نشهده حاليًا، او ان تصيب البطالة بصورها المختلفة هذا القطاع النبيل.

ثالثاً: بلوغ المستشفيات في فلسطين حد الإشباع من حيث قدرتها الاستيعابية لتوفير التدريب السريري، الأمر الذي سيخلق معضلة حقيقية امام هذا العدد المتزايد من الطلبة الذين سيحتاجون للتدريب العملي في المستشفيات، والذي لن يكون حله الا على حساب جودة مستوى التدريب، وذلك اما باختصار مدة التدريب لإفساح المجال للعدد المتنامي من طلبة الطب، او بمضاعفة عدد الطلبة في الوحدات التدريبية، وكلاهما سيفضي الى الانتقاص من جودة التدريب السريري، وبالتالي المستوى المهني للخريج.

رابعاً: في ظل هذا الازدياد الكبير في عدد المقاعد المتاحة لدراسة الطب والتي تفوق بقدر كبير عدد طلبة الثانوية الذين يحققون شروط القبول الحالية لتخصص الطب، والتي تم تقريرها وفقًا لأعلى المعايير لضمان تميز وجدية الدارس لهذا المجال الذي يتعلق بحيوات البشر، فان كليات الطب الحالية ستجد نفسها مضطرة الى تخفيض معدلات القبول، مثلما فعلت حاليًا بعض الجامعات (وهو ما نرفضه في جامعة القدس) وذلك لإستيفاء العدد المطلوب من الطلبة، ما سيقود حتمًا لنتيجتين: تعثر الطلبة المقبولين بشروط منخفضة اثناء دراستهم لعدم تمكنهم من مواكبة المتطلبات المشددة في هذا التخصص، او التخرج بشق الانفس بمستوى مهني محدود، والنتيجة الثانية التي سيفضي اليها تخفيض معدلات القبول هو عزوف الطلبة عن الكثير من التخصصات العلمية والتكنولوجية الأخرى التي تحتاجها فلسطين ونعاني من شحٍ فيها، اذ ما يزال مجتمعنا ينظر الى تخصص الطب باعتباره الأكثر وقارًا، ما سيؤثر على الأقبال على الكليات العلمية الأخرى وبالتالي على قدرتها على استدامة نفسها، ويزيد بشكل مطرد من عدد الأطباء في سوق عمل محدود، مما سيؤدي الى ارتدادات اقتصادية واجتماعية متعددة الجوانب في المدى المتوسط وطويل الأمد.

أكتفي بذكر هذه المعطيات التي باعتقادي تكفي لوحدها لدفع الجهات المختصة للتريث قبل منح الموافقة على تأسيس كليات طب جديدة في فلسطين، والتي آمل من صانع القرار في الحكومة الفلسطينية بمختلف وزاراتها وهيئاتها، اخذها بعين الاعتبار، وإخضاع هذا الأمر الى دراسة مستفيضة في اطار التخطيط الاستراتيجي السليم، الذي يأخذ تحقيق مصلحة المجتمع بكافة مكوناته في الحسبان، ونسعى جميعًا الى تحقيقه.”