بقلم: زهير الدبعي*
تؤلمني رؤية الجثث والحرائق والدمار والخراب والدم وأطفال الضحايا ومشاهدة أي انسان يتعرض للإذلال في أي مكان في العالم حتى في عاصمة الدولة التي تحترف العربدة والاستكبار وإشعال الحروب والحصار والتجويع وتدبير الانقلابات والفوضى في العالم تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب.
قتل الإنسان وتعذيبه وسلب وطنه ونهب ثرواته جريمة بغض النظر عن هوية القاتل وهوية القتيل، فالله سبحانه وتعالى هو رب العالمين أرسل الأنبياء والمرسلين حماية للإنسان من الضلال والضياع، وكي لا يكون ظالماً وأن لا يبقى مظلوماً.
لبنان في فكري وقلبي وذاكرتي يعني عددا من المفكرين الذي جلست على مائدة فكرهم وأدبهم وأقلامهم، وكان لزادهم الطيب والشهي والمبارك آثاراً إيجابية في تكويني الفكري والأخلاقي حيث بدأت قراءة كتب سيد قطب، وغيره من جماعة الإخوان المسلمين في فتوي، فكانت قراءاتي لكتب جبران وميخائيل نعيمة ومارون عبود عاملاً وازناً حماني من التفكير الأحادي القبلي، وأسهم ذلك في تعزيز انتمائي إلى المعسكر الإنساني الأخلاقي المقاوم للطائفية وتقزيم أفق انتماء الإنسان إلى هوامش طائفية ضيقة، وقررت وزوجتي تسمية ابننا الثاني جبران كي نترجم رفضنا للطائفية، وكي نترجم تقديرنا الكبير لفكر وكتابات جبران كأكبر مفكر وأديب عربي في القرن العشرين، والذي ترجم كتابه (النبي) لـ (56)لغة.
ولبنان في ذاكرتي يعني فيروز هذه الفنانة التي مارست الفن كرسالة وأبت أن تحشر ذاتها في جيب أي ملك أو زعيم أو أمير، فيروز التي غنت رائعتها (زهرة المدائن) من كلمات وتلحين الأخوين رحباني. وهذه القصيدة تجسد القداسة والألم والأمل، وتجسد هوية القدس العربية، وهي تتحدث بإبداع استثنائي جدير بالخلود، وروائع فيروز ليست فقط عن القدس وفلسطين وإنما أيضاً عن لبنان وبيروت ودمشق ومكة المكرمة وبغداد التي أحرص على الاستماع إليها يومياً ربما عدة مرات لإيماني العميق بأن مستقبل القدس وبغداد وصنعاء والجزائر ونواكشوط مرهون باتحاد لا يلغي مكونات المتحدين وإنما يراكمها ويجعل من تناغمها وتكاملها قوة وعزة وقدرة على تنفيذ خطط تنمية واعدة من ثمارها كبح رغبة الشباب في وطن العرب للهروب من الوطن ولو على زوارق الموت، وكذلك النجاح في إيجاد بيئة الاستقرار والعيش المشترك والرخاء التي تستقطب أصحاب الكفاءات والخبرات الرفيعة من العرب للعودة إلى وطنهم، الذي سيستعيد وعيه واحترامه لذاته من خلال مبادئ المواطنة، التي تعني المساواة و الندية والشراكة بين جميع المواطنين ليصبح من المألوف أن يقود الاتحاد امرأة من الصومال، أو كردي من القامشلي، أو أمازيغي من الجزائر، أو مسلم شيعي من النجف، أو مسلم سني من أسيوط، أو مسيحي من بيت لحم على أسس سيادة القانون، وفصل السلطات وتداولها واستقلال القضاء وحماية كرامة وحقوق كل مواطن في الأمن والاستقرار والحرية والخبز والدواء وحليب الأطفال، وحقه في التفكير والتعبير، وبهذا نكون قد حققنا جوهر الأديان ومقاصد الشريعة.
ولبنان في قلبي وذاكرتي أصبح أكثر حضوراً ورسوخاً منذ العام2004 لدى انخراطي في تدريب على اللاعنف بمبادرة وتنفيذ وإشراف الدكتور وليد صليبي، المختص في الهندسة والفيزياء والاقتصاد السياسي، ومع ذلك فقد تفرغ كلياً لحمل رسالة اللاعنف من تأليف كتب وفعاليات وتأسيس الكلية الجامعية لللاعنف وحقوق الإنسان في العالم العربي(أونور)، وكذلك رفيقة دربه الدكتورة أوغاريت يونان التي لا يخبو إشعاعها وعطاؤها ونشاطها اللافت.
ورغم أن توجهاتي اللاعنفية بدأت منذ أن سلمت قنبلتين يدويتين لرفاق دربي في مجموعتنا المقاومة في العام 1969 وقلت لهم: التعليمات عدم استهداف أية أهداف غير عسكرية، وناقش رفاق دربي- وبعضهم سبقنا إلى دار البقاء- بدعوى أنه لا يوجد لدى الاحتلال مدنيين لأنهم عسكريون في إجازة، ولما فشلت في إقناعهم بضرورة التمييز بين العسكريين وغيرهم قلت لهم التعليمات تحظر استهداف العسكريين المجازين.
وطيلة مراحل حياتي ومنعطفاتها فإني أنحاز إلى النشاط اللاعنفي العلني. وكتبت في صحيفة (نابلس) الأسبوعية التي أصدرتها 1992- 1996 عشرات المقالات والافتتاحيات التي تحذر من خطورة السلاح واستخدامه لأغراض الألعاب النارية، فضلاً عن ترويع المواطنين وفرض الإتاوات،لقد فتحت لي محاضرات اللاعنف في ظهور الشوير، وفي بكفيا، وفتقه، وبرمانا آفاقاً جديدة في وعيي وفكري وجعلتني أكثر نضجاً وأوسع أفقاً وأقدر على تحليل علمي عميق لمخاطر العنف والطائفية والحروب.
وإني مدين بدين يطوق عنقي لكل الذين علموني في لبنان وفي مقدمتهم المنارتين الدكتور وليد صليبي وأوغاريت يونان وفريق عملهم المتناغم والقوي والمثمر. وإني حزين ومتألم لكل ضحايا مرفأ بيروت ولكل منزل ومؤسسة تعرضت للدمار الكلي أو الجزئي بما في ذلك مكاتب (أونور) في حي الجميزة في بيروت التي اشتريت منها في العام 2005 عدداً من الكتب من منشورات رياض الريس للكتب والنشر التي مازالت تحظى بمنزلة في مكتبتي.
بيروت مدينة جميلة مبتسمة منتجة للكتب بهذا العدد الكبير من دور النشر العريقة والجديدة وطالما أننا نهتم بالكتب، وطالما أننا نقرأ فهذا يعني أننا نعترف بحاجتنا إلى المعلومات والمعرفة والإبداع وبحاجة إلى مزيد من التفكير وإخضاع أدائنا للمراجعة.
ولبنان قطر عربي جار عزيز ومتميز لفلسطين وسوريا كانت يفترض أن يلعب دوراً أفضل وأعمق في ميادين الثقافة والفكر والتربية والتعليم والسياحة والاستجمام لو لم تفتك به الطائفية التي هي في غايتها وأدواتها وافرازاتها مناقضة للدين.
الطائفية أداة للاستعمار منذ وقبل وبعد وعد بلفور الذي وصف الشعب الفلسطيني عام 1917 بأنه (الطوائف غير اليهودية في فلسطين) رغم أن الفلسطينيين كانت نسبتهم 90%
حرصت في كل زياراتي المثمرة لبيروت أن أتلقى الدروس في دائرة (فلسفة اللاعنف) وفي إحداها كنت محاضراً زائراً وما أتمنى أن يتاح لي الدراسة في دائرة (اللاطائفية) وهي إحدى دوائر (أونور).
والطائفية شكلت وتشكل خطراً جدياً على لبنان وكل أقطار وطن العرب لأنها تعني استخدام المقدس لأغراض المدنس ولأنها تجعل من التعددية والتنوع مسوغاً للتناطح والصراع رغم أنهما قوة وغنى وثراء.
مستقبل لبنان وكل أقطار وطن العرب، وكل المليارات التي تعاني من الظلم والقهر والاضطهاد في هذا الكوكب منوط بمقاومة قوية فعالة مثمرة، بأسلحة اللاعنف وهي أسلحة ذاتية لا تحتاج إلى استيراد وفواتير وذخائر ومخابئ وأذونات من منتجي السلاح في هذا الكوكب، وكلهم أخطر من فرعون وهيرودس وعمرو بن هشام.
دعائي الشفاء للجرحى، وللمشردين العودة إلى منازلهم بعد إصلاحها، وإلى المحزونين جميل الصبر والعزاء.
وسلامٌ على بيروت…
*المدير الأسبق للأوقاف والشؤون الدينية /نابلس.