بقلم: فاتن الدوسري
مع انتهاء الولاية الثانية للرئيس بوش الابن في 2008، جرت داخل الدوائر الأكاديمية والرسمية مراجعات ساخنة بشأن جدوى ونتائج الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003 الذي كبد الخزانة الأمريكية مليارات الدولارات دون تحقيق الاستقرار والديمقراطية كما زعمت واشنطن، بل على العكس أسقط المنطقة برمتها في دوامة من عدم الاستقرار والتناحر العرقي والمذهبي وتفشي الإرهاب.
أفضت تلك المراجعات الكارثية للاحتلال والتي تزامنت مع ظهور ثلاثة متغيرات كبرى: الأزمة المالية العالمية، ثورة إنتاج النفط الصخري الأمريكي، وتصاعد قوة الصين في آسيا؛ إلى إحداث تحول جذري في التوجه الاستراتيجي للولايات المتحدة بشأن حتمية الدفع بنهج “المشاركة أو الانخراط المحدود Low footprint” للولايات المتحدة في النظام الدولي.
الدعامة الرئيسية لهذا النهج هو سياسة التوازن الخارجي العسكري Offshore balance، بحيث يقتصر التدخل العسكري الأمريكي على حالات الضرورة القصوى التي تتعرض فيها المصالح الأمريكية الحيوية لتهديدات شديدة الخطورة.
وعلى الصعيد السياسي، ضرورة مشاركة حلفاء واشنطن والأمم المتحدة في حل الأزمات والقضايا الدولية، وتقليص اعتمادهم على الحماية العسكرية الأمريكية.
وحظي الشرق الأوسط بالتطبيق شبه الكامل لنهج المشاركة المحدودة، بفضل تراجع أهمية نفط المنطقة لواشنطن، وتركيزها التام على احتواء الصعود الصيني في آسيا، وهذا ما بدا جليا في استراتيجية أوباما في المنطقة، فقد أوفى أوباما بوعوده بسحب قواته من العراق وأفغانستان، وترددت إدارته كثيرا في التدخل في ليبيا لإسقاط نظام القذافي، وفي العراق للقضاء على خطر داعش، مع العلم أن تلك التدخلات أيضا كانت في صلب النهج المحدود، حيث اكتفت بالضربات الجوية الخاطفة، وضرورة مشاركة الحلفاء، أما فيما يتعلق بباقي الملفات الساخنة في المنطقة خاصة الأزمة السورية فقد كان التفاعل الأمريكي شبه غائب.
وعلى غرار سلفه، سقطت تماما قضايا المنطقة الحساسة لاسيما الأزمة السورية والليبية من حسابات ترامب، وركز على تعميق الشراكة مع بعض الحلفاء كالسعودية لحسابات اقتصادية بحتة، فترامب كان أكثر جرأة في تصريحاته بشأن عدم جدوى الوجود الأمريكي في المنطقة، وتشجيعه للحلفاء التقليديين في المنطقة بضرورة تحمل مسؤولية الحفاظ على أمنهم بمفردهم، كدلالة واضحة بأن نهج الانخراط المحدود بات توجها رئيسيا ثابتا للولايات المتحدة بغض النظر عن كون من هو سيد البيت الأبيض.
وبالرغم من جميع مظاهر نهج الانخراط المحدود للولايات المتحدة في المنطقة منذ 2009، والتي لا تخطئها العين، إلا أن تلك المسألة لا يزال يشوبها الكثير من اللغط والأقاويل ما بين مؤيد ومعارض.
والحقيقة أن مرجع ذلك اللغط أمران: الأول هو استمرار التواجد العسكري القوي في المنطقة، وهو الأمر الذي يستند عليه بشدة بعض مناهضي فكرة الانخراط المحدود، متناسين أن هذا التواجد بات يندرج في سياق التوازن الخارجي، أي تفعيله فقط في حال وجود تهديدات خطيرة للمصالح الأمريكية في المنطقة، وليس لحماية حلفاء واشنطن أو التدخل في أزمات المنطقة.
والثاني، منبع اللغط الرئيسي هو تعميم سياسة واشنطن برمتها في المنطقة بالقياس على تعاطيها مع أهم ملفين في المنطقة: الملف الإيراني، وملف الصراع العربي – الإسرائيلي.
فبالقياس على الملف الإيراني، وجدت الأصوات والكتابات المؤيدة للتخلي التدريجي لإدارة أوباما عن دورها التقليدي في المنطقة ضالتها في الاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة أوباما مع إيران في 2015.
في حين عندما انسحبت إدارة ترامب من الاتفاق، وتبنت موقفا متشددا للغاية تجاه إيران، خرجت نفس الأصوات تبشر بعودة قوية للدور التقليدي للولايات المتحدة في المنطقة، نفس الحال، ينطبق أيضا على الصراع العربي الإسرائيلي، فتمسك أوباما بخيار حل الدولتين وانتقاد سياسات التوسع الإسرائيلية، كان ملاذا قويا للأصوات المناهضة لفكرة الانخراط المحدود، والعكس صحيح عندما تبنى ترامب سياسة منحازة تماما لإسرائيل تجلت في نقل السفارة الأمريكية إلى القدس ودعم مخططات الضم.
وبصرف النظر عن التحليل الجزئي المبتور البعيد عن القراءة الموضوعية لواقع الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة التي ينبغي أن تبنى على معطيات واقعية تلامس الصورة بكاملها، فالحقيقة الأهم أنه حتى تعاطي واشنطن مع هذين الملفين يندرج ضمن الانخراط المحدود لكن بصور وزوايا مختلفة، لكننا نتغافل عن ذلك في خضم التركيز على جوانب معينة من الحقيقة دون أخرى.
لا جدال بأن إبرام إدارة أوباما الاتفاق النووي مع إيران قد جسد ذروة الانخراط المحدود المصحوب بتحول استراتيجي للولايات المتحدة بشأن رؤيتها للتهديدات الأمنية التقليدية في المنطقة، لكن في المقابل، رغم تبني ترامب سياسة شديدة العداء تجاه إيران، إلا أنه قد اكتفى بفرض العقوبات الاقتصادية، وتغليظها تدريجياً حتى بلغت ذروتها في ظل التصعيد على خلفية ما بات يعرف بحرب ناقلات النفط، رغم تهديداته المتكررة بعمل عسكري قوي ضد إيران على خلفية التصعيد الإيراني.
المثير في الأمر أنه في خضم حرب ناقلات النفط التي شكلت تهديدا خطيرا للسعودية أقرب حلفاء ترامب في المنطقة، طالب ترامب الدول ذات المصلحة بما في ذلك الصين بحماية سفنها النفطية في مضيق هرمز، وما أدل عن ذلك لوصف سياسة ترامب تجاه إيران على أنها صورة مختلفة من صور الانخراط المحدود.
أما فيما يتعلق بالصراع العربي-الإسرائيلي، فسياسة ترامب تجاهها لا تحتاج إلى نقاش مطول، حيث تجاوزت جميع الخطوط المظهرية التي سعت واشنطن عبر عقود إلى التواري وراءها للظهور بمظهر الوسيط النزيه.
لكن بالمقابل، نجد أن إدارة أوباما كانت أقل الإدارات في تاريخ الولايات المتحدة انخراطا واهتماما بقضية الصراع في سياق انخراطها المحدود، حيث اكتفت بالحفاظ على تلك الخطوط المظهرية على شاكلة حل الدولتين وانتقاد التوسع في الضفة، دون القيام بإجراءات ملموسة لحلحلة الصراع.
وحاز الشرق الأوسط نصيبا في سجالات مرشحي الرئاسة الأمريكية ترامب وبايدن، وكالمعتاد أيضا، سيبني الكثيرون تكهناتهم بشأن حقيقة الانخراط الأمريكي في المنطقة بناء على ما أفصح عنه كل مرشح بشأن الملفين الرئيسيين، دون النظر للحقيقة الكاملة لاستراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة التي ألمح إليها كلا المرشحين أيضا.
فبالنسبة لترامب، ففوزه باستحقاق رئاسي ثان، لم يفض إلى تغيير يذكر في استراتيجيته تجاه المنطقة – أي التركيز على بعض القضايا التي تهم الاقتصاد وإرضاء الدوائر الموالية لإسرائيل في الداخل كإضعاف إيران – وهذا ما ألمح إليه مراراً.
أما فيما يتعلق ببايدن، فمن المرجح أن يستمر على نهج الانخراط المحدود لأوباما لاسيما وأنه كان نائبه وأحد الداعمين لهذا النهج، وهذا ما اتضح تماما من تصريحاته المنددة بالتحالفات الأمريكية التقليدية في المنطقة، ورغبته في إنهاء الوجود العسكري الأمريكي تماما في المنطقة.
ومع ذلك، فبالقياس على الملفين الرئيسيين، نجد أن حملة بايدن قد أشارت مرارا إلى عزمها العودة إلى الاتفاق الإيراني بشرط التزام إيران الكامل به.
وفيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، فقد أعربت حملة بايدن عن دعمها لحل الدولتين وإيقاف الاستيطان، ومع ذلك، ففيما يبدو أن بايدن سيتبع نهج انخراط محدود أيضا تجاه الصراع، لاسيما وهو أبرز المدافعين عن إسرائيل، وغالبا ما يحمل الفلسطينيين مسؤولية جزئية عن التصعيد والعنف.
وخطورة تبني بايدن لانخراط محدود بشأن الصراع يكمن في صعوبة تراجع الولايات المتحدة عما اتخذه ترامب من سياسات منحازة لإسرائيل، وغياب إرادة أمريكية حقيقية للضغط على إسرائيل بشأن مخططات الضم.
وختاما، إن الوقوف على حقيقة الانخراط الأمريكي المحدود في المنطقة كتوجه استراتيجي عام للولايات المتحدة، ينبغي أن يستدل عليه من التفاعل الأمريكي العام – العسكري والسياسي – في المنطقة، وليس من خلال فرضية استمرار التواجد العسكري الأمريكي، أو التعميم بناء على التعاطي الأمريكي في ملفات جزئية، تدار أيضا في إطار انخراط محدود لكن بصور مختلفة، وما بدا من تصريحات ترامب وبايدن يشير بجلاء إلى أن نهج الانخراط المحدود سيستمر في الأجل المنظور، وربما يفضي في النهاية لانسحاب عسكري تام من المنطقة، وعليه، ينبغي على حلفاء واشنطن ألا تعلق آمالا كبيرة على واشنطن لاسيما في مسألة الحماية، وتستعد من الآن لإيجاد حلول بديلة.
عن “الشرق” القطرية