“تفكير خارج الصندوق”…
الحركة الوطنية الفلسطينية في مواجهة الحركة الصهيونية
بقلم: العميد أحمد عيسى*
اين الحركة الوطنية الفلسطينية الآن؟ بعد مرور سبعة عقود تقريباً على إعلان تيودور هرتزل عن تأسيس االحركة لصهيونية السياسية عام 1897، أعلن الفلسطينيون عن تأسيس الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة في أواسط ستينات القرن الماضي لغايات تحرير الجزء المحتل من فلسطين عبر الكفاح المسلح، وفقاً لنص المادتين (8،9) من الميثاق الوطني الفلسطيني، وفيما لم يمض على تأسيسها ثلات سنوات، احتل الجيش الإسرائيلي ما تبقى من أرض فلسطين في حرب العام 1967، ليصبح الشعب الفلسطيني برمته بلا أرض، وإما لاجئاً مشرداً في أصقاع الدنيا، او مواطناً في دولة إسرائيل بلا حقوق متساوية مع باقي سكانها اليهود، أو خاضعاً للاحتلال العسكري في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وعلى الرغم من ضياع الأرض والتشتت واللجوء والاحتلال العسكري والتفرقة العنصرية، لم يتبدد الإنسان الفلسطيني، إذ ظل الشعب موحداً حول هدف تحرير الوطن، وظل المجتمع متماسكاً عصياً على الاختراق من خارجه، كا ظلت همة الشعب عالية وحيويته وقدرته على التجدد والإنبعاث من جديد حاضرة دوماً.
الآن وبعد مضي أكثر من خمسة عقود على تأسيسها ومرور ثلاتة عقود تقريباً على انخراط الحركة الوطنية الفلسطينية في مسيرة لتسوية الصراع سلمياً عبر المفاوضات في محاولة منها لإعلاء شأن الهوية الوطنية من خلال إقامة الدولة المنشودة على جزء من أرض فلسطين الإنتدابية، لا يبدو أن بوارد الحركة الصهيونية سواء الآن، أم في المستقبل المنظور، التنازل عن شبر من الأرض، والأهم من ذلك أن الشعب الفلسطيني لم يعد كما كان موحداً، أو واحداً حتى داخل التنظيم الواحد، الأمر الذي يشير إلى نجاح الحركة الصهيونية في تحقيق بعض الأهداف التي أُنشئت وأُسست من أجلها، ولا يشير بالمقابل إلى عدم نجاح الحركة الوطنية الفلسطينية في استعادة جزء من كل الأرض فحسب، بل يشير علاوة على ذلك إلى عدم نجاحها بالمحافظة على الإنسان، فضلاً عن عدم نجاحها في المحافظة على وحدة ومناعة وتماسك وحيوية المجتمع، وهو ما يعتبر من الأعمدة التي لا يمكن لأي مجتمع أن يجدد ذاته وينبعث من جديد إذا ما كانت على أحسن حال.
وعلى ذلك تصبح مهمة استعادة الإنسان الفلسطيني الذي هو نواة المجتمع من حالة الإنتهازية والزبائنية وهيمنة ثقافة الكذب والإدعاء على فكره وسلوكه لإيمانه أنهما الوسيلة الأسرع لتحقيق الترقي والترفع في المناصب، ومن ثم استحضار معنى الوطن من أعماقه، أولوية تعلو على كل الأولويات، بما في ذلك أولوية الانتصار على الحركة الصهيونية وتحرير الوطن ومقدساته الإسلامية والمسيحية.
وفي سعيها لإصلاح ما أُفسد أو فسد، تداعت مكونات الحركة الوطنية بما في ذلك المكونات ذات الصبغة الإسلامية، لا سيما حركة حماس (التي لم تعد تشكل بديلاً أو تجديداً محتملاً لباقي مكونات الحركة الوطنية المنضوية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية كما وعدت الشعب الفلسطيني عند إنطلاقتها في آواخر ثمانينات القرن الماضي وفقاً لنص ميثاقها أو وثيقتها المعدلة، بل أصبحت شريكاً اصيلاً لهذه المكونات في ضياع الأرض والإنسان، اللذان يشكلان بعدي المأزق الفلسطيني المعاش)، وقررت في إجتماعها الذي انعقد في رام الله – وبيروت في الثالت من أيلول الماضي تشكيل لجنة وطنية (وازنة) لتطوير إستراتيجية تُنهي الإنقسام وتحقق الوحدة والشراكة خلال فترة زمنية لا تتجاوز خمسة أسابيع.
وعلاوة على ذلك دعى الأُمناء العامون في مُداخلاتهم في اللقاء ذاته إلى حوار وطني شامل، وكان لافتاً في هذا الشأن، دعوة الرئيس محمود عباس الى حوار شامل تجريه المكونات الوطنية المجتمعة مع الشعب الفلسطيني. ونؤكد هنا أن هذا ما يجب أن يكون، اي أن ينطلق الحوار من الشعب أولاً، لا سيما من قبل نخبه من الأكاديميين والمثقفين الذين لا زالوا فلسطينيين عقلاً وقلباً، وما أكثرهم في فلسطين وخارجها، بعيداً عن كل مكونات الحركة الوطنية، لتحمل هذه الأخيرة الجزء الأكبر من المسؤولية عن مأزق الفلسطينيين الراهن وفقاً لقراءة المفكر الفلسطيني الراحل حسين أبو النمل الذي قال في أحدى كتاباته “لا يمكن للعقل السياسي الذي تورط في المأزق أن يخرج الشعب منه سليماُ معافى، وإلا لماذا تورط في المأزق أصلاً”؟ بحيث لا تقتصر مهمة هذا الفريق من النخبة (وحبذا لو تصدت أحد الجامعات الفلسطينية أو كُلها مجتمعة لإنجاز هذه المهمة)، على تطوير استراتيجية تُنهي الانقسام وتحقق الوحدة والشراكة وحسب، بل تسعى لتطوير استراتيجية وطنية شاملة تعيد للشعب الفلسطيني وحركتة الوطنية الإيمان بالقدرة الانتصار على الحركة الصهيونية، وبعد ذلك تتم مقارنة الاستراتيجية التي طورتها النخبة لتوها مع إستراتيجيات مكونات الحركة الوطنية للوقوف على التوافقات والتباينات، ثم يتركز الحوار بعد ذلك على التباينات.
قد يسارع البعض هنا ويقفز إلى خلاصات واستنتاجات متعجلة بالقول أن نقل الحوار الوطني إلى النخبة ينطوي على كُفر وربما تمرد على مكونات الحركة الوطنية، وربما يذهب للقول أن استبعاد مكونات الحركة الوطنية عن الحوار في بدايته ينطوي على اعتراف مبكر بعدم قدرة مكونات الحركة الوطنية على تفكيك المأزق ومعالجة اسبابه، وفي هذا الشأن ترى هذه المقالة أن الشق الأول من الإستنتاج ليس بريئاً، إذ أن فاقد البصيرة الوطنية فقط من لم ير ويلمس بعد، أن مكونات الحركة الوطنية مجتمعة قد قررت فعلاً تصويب أخطاء الماضي وإصلاح ما فسد، بدليل أنها قررت علناً عدم الإستسلام والمواجهة على الرغم من بقائها في ميدان المواجهة لوحدها، الأمر الذي يشكل أساساً متيناً للبناء عليه، لا سيما وأن الجيل المؤسس للحركة الوطنية يوشك أن يغادر المشهد ويسلم الراية لجيل آخر.
أما الشق الثاني من الاستنتاج فينطوي على قدر من الصحة، إذ تعدى مأزق الفلسطينيين الراهن، البعد السياسي ليشمل المجتمع والإنسان، الأمر الذي يفوق قدرة مكونات الحركة الوطنية على تفكيك إستعصاءاته لوحدها، فالأزمة قد وصلت قاع المجتمع، وما أزمة الحركة السياسية الفلسطينية، إلا أحد تجليات أزمة المجتمع الفلسطيني.
هل يملك الشعب الفلسطيني مقومات الانبعاث من جديد؟
لا أجازف هنا بالقول أنه لا يختلف إثنان من الشعب الفلسطيني على الإجابة بنعم على هذا السؤال، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال رفض الشعب الفلسطيني بقده وقديده، بما في ذلك حركته الوطنية بكل مكوناتها رفع الراية البيضاء والاستسلام للشروط الإسرائيلية الأمريكية التي جرى مباركتها من بعض العرب، وذلك على الرغم من إدراك الشعب بإحساسه قبل وعيه كما يقول المفكر الفلسطيني الراحل خالد الحسن لما هو عليه من ضعف وتفكك وهوان، ورغم إدراكه كذلك للكلفة الباهضة التي سيدفعها من قوته ودمه لرفضه الخضوع لشروط الاستسلام هذه، وإصراره على النهوض من جديد والتقدم نحو المستقبل الذي يريد ويستحق، إذ لا زال يؤمن هذا الشعب أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة كما يقول الشاعر الفيلسوف محمود درويش، كما لا زالت الوطنية الفلسطينية عصية على التحلل والتعفن وترفض الخضوع للتطبيقات الإسرائيلية الأمريكية المدعومة من بعض العرب لاستراتيجيات بيرناد برودي، وهنا يتجلى الإنجاز الأكبر للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة التي يكتب لها بعث الوطنية الفلسطينية التي مكنت الشعب من امتلاك زمام أمره، الأمر الذي فيما منع ويمنع حلفاء إسرائيل من العرب التقرير نيابة عن الفلسطينيين بشأن مصيرهم ومستقبلهم، يشكل أساساً لتجديد الحيوية والانبعاث من جديد، لا سيما وأن الانبعاث من جديد هو الخيار الوحيد المتاح أمام الفلسطينيين.
*المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي