بقلم: يونس العموري
ثمة ظاهرة لا بد من التوقف عندها هذه الأيام في ظل انتظار الكل الفلسطيني للمرسوم الرئاسي الخاص بالانتخابات العامة، والتي اعتقد انها قد بدأت بالسيطرة على المسار المجتمعي بمنظومة وعيه وصناعه مفاهيمه بشكل او بآخر، حيث بات يتردد ترويجا سياسا جديدا يجيء على شكل منهج ليبرالي تفكيري لدى المنشغلين بالشأن السياسي العام، وحتى بعض الأكاديمين والدارسين يهدد أركان منظومة المفاهيم الفلسطينية برمتها وهذا الترويج بات يعتمد على ما يسمى بالواقعية السياسية وضرورة النظر للأمور والمستجدات التفاعلية بالمنطقة بمنظار الواقعية والتعاطي معها والتسليم بنتائجها، وبالتالي التخلي على الخطاب السياسي المستند على الثوابت الوطنية والحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، حتى ان انصار الواقعية او الوقعيون الجدد باتت نظرتهم للوقائع السياسية تعتمد على المطروح اسرائيليا ودوليا من خلال البوابة الأمريكية، وأي لغة اخرى من شأنها معارضة ومقاومة المد الإمريكي ومقاومة السياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية وتحديدا اتجاه قضية كقضية القدس او مسألة اللاجئين توصف من قبل هؤلاء الواقعيين على انها خطابات خشبية جامدة لا تغني ولا تسمن من جوع، مع العلم ان الخطاب الفلسطيني الراهن وبالظرف الحالي والذي عبر ويعبر عن نفسه من خلال أطروحة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران بعاصمتها القدس انما يعتبر قمة الواقعية الجديدة، والتعاطي والشأن الدولي العام في ظل مستجدات دولية واقليمية فرضت نفسها على مختلف صُناع القرار السياسي الفلسطيني على مدى العقدين الأخيرين، وهذا بتصوري ما يشكل الحد الأدنى من الخطاب الوطني والقومي ودون ذلك يعتبر تفريطا وليس انسجاما والواقع الدولي والإقليمي.
ان أنصار الواقعية الجديدة يرون بكل اشكال المقاومات وليست بالضرورة المسلحة او العنيفة لسياسات الاحتلال خروجا عن نمطية هذه الواقيعة وتخريب الرؤية السياسية التي يحاولون ان يتعاطون ونتاجاتها على الأرض، كأن يقال مثلا ان قضية كقضية القدس أكبر من ان نفرض فيها اي حقائق او وقائع فلسطينية وبالتالي من الضروري التعاطي والمطروح على أرض الواقع وان يتخلى انصار التمسك بالثوابت عن ( اللغة الخشبية) اتجاه قضية القدس… وان الدعوة الى الصمود وتعزيز اسباب الصمود العربي والوطني فيها في ظل ظرفية السلطة الفلسطينية وقيادتها والتحديات التي تفرض نفسها على هذه القيادة يعتبر تصعيدا خطابيا ضد هذه القيادة او احراجها علما ان اسباب الصمود ليس بالضرورة ان تكون مادية فقط مع اهمية الدعم المادي لهذا الصمود ولبقاء فعل المؤسسات الوطنية فيها.
بل إن الرؤية السياسية اتجاه القدس وتحديد اللغة والمفردات المبدئية وتضمينها بالخطاب الفلسطيني الرسمي والمستند الى خطط برامجية واضحة المعالم وقابلة للتطبيق وفق منهاج علمي وعملاني بذات الوقت، من شأنه ان يعزز الصمود العربي بالقدس وعلى الأقل ان يتصدى للسياسات الإسرائيلية او ان يعطل مسارات فعلها وتخريبها وتغير ملامحها العربية وهويتها الحضارية…. وهكذا خطاب عادة ما يتم وصفه بلغة هؤلاء الواقعيون بالخشبي وغير المنطقي في ظل ظرفية السلطة….
وفي ظل تصارع لغة الواقعية الجديدة وانصارها مع اللغة الوطنية العربية المستندة الى الحق الوطني والعروبي التاريخي نجد هؤلاء الواقعيين ممن يحاولون الرهان على الأطروحة الدولية عبر بوابة الأمبرطورية الإمريكية وسياساتها في المنطقة يحاولون ان يجدوا ومن خلال هوامش هذه السياسات بعضا من الفتات يقتاتون فيه لممارسة الكلام السياسي وفن التنظير الواقعي حول ضرورات المرحلة ومتطلباتها وحضارية التعاطي السياسي واخلاقيات العصر الأمريكي في ادارة الشأن الدبلوماسي على قاعدة مراعاة المصالح ومناطق النفوذ وضرورة تقديم التنازلات المطلوبة حتى نأخذ مكاننا في نادي الليبراليين العرب الجدد المتفقين مع المحافظين الجدد في بلاد العم سام، وحتى نكون على تواصل مع عواصم الاعتدال العربي التي باشرت بتنفيذ مخططات التطبيع الكامل مع الدولة العبرية، وهذا النادي من اهم شروط عضويته ان يتم التخلي عن (اللغة الخشبية) قي القضايا الوطنية والقومية كقضية القدس وقضية اللاجئين، ومسألة الدولة الفلسطينينة المستقلة ذات السيادة على حدود الرابع من حزيران والأهم ان يتم نبذ ( الارهاب ) بكافة اشكاله وانواعه من ضرب الحجر والاعتصام والتظاهر وحتى التعبير عن وجهة النظر بمعنى آخر يجب ان نحاور الأخر في معادلة الصراع وان نقبل مبدأ الحوار والتحاور على كل ممارسة اسرائيلية… ولهم الحق ان يفعلوا ما يشاءون دون ان يكون لنا الحق بمجرد تعزيز اسباب الصمود والثبات.
بات هذا المنهج يتبلور فيما يسمى ببعض منظات المجتمع المدني والكثير من الفعاليات والشخصيات التي تعبر عن نفسها بالتفكير خارج صندوق الكلاسيكية الفصائلية الفلسطينية.
من حق ادارة البيت الأبيض ان تعقد جلسات المشاورات والمباحثات مع وزراء الخارجية العرب ومدراء المخابرات لدول المحور الاعتدالي الرباعي الشكل وان تعطيهم تعليماتها واوامرها لكيفية تهيئة المسرح الإقليمي للفعل الامريكي القادم والمتواصل نحو وفي المنطقة والمطلوب منا وحسب الواقعية التسليم بهكذا وقائع، والتعاطي واثارها على اساس المساهمة في صناعة السياسات في المنطقة على اساس قوانين الواقعية الجديدة والتعاطي وتداعيات الاتفاقيات الشرق اوسطية ، وبات من الواضح ان ثمة ادوار للكثير من التجمعات الفلسطينية بعناوين مختلفة تنظم صفوفها للتمظهر هكذا رؤية وتدفع بها من خلال محاولة تنظيم الصفوف في اطر تكتيلة بمسميات مختلفة والفرصة ستكون من خلال الفعل الانتخابي العام .
ومن حق السيد بومبيو ان يرى في القيادة الفلسطينية تعقيدا لعملية السلام وان يدعو العرب لأن تمد يدها لإسرائيل وان تباشر بفعل التطبيع معها اولا ، وليس من حقنا الا ان نتعاطى مع عميد الدبلوماسية الإمريكية الا بلغة الواقعية السياسية وهو الأمر الواضح والمُمارس الأن بكافة السبل والوسائل الملموسة!
وفي سياق التعاطي السياسي الرسمي الإقليمي والمبرمج الى حد ما امريكيا على شكل صبغة دولية ثمة ملاحظات لا بد من ابرازها امام رواد الواقعية السياسية الجديدة في المنطقة ولعل اهم هذه الملاحظات تتلخص بالآتي:
• إن إدارة البيت الأبيض لا ترى ان الوقت قد حان لحل قضايا ما يسمى بالمرحلة النهائية فيما يخص القضية الفلسطينية والمقصود طبعا قضايا القدس واللاجئين واقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة.
• اشاعة جو سياسي ودبلوماسي عام في المنطقة من قبل البيت الأبيض والحكومة الإسرائيلية بالتعاون مع الواقعيين العرب والفلسطينيين الجدد باعتبار ان المنطقة غير مهيئة لإحلال ما يسمى بالسلام التسووي، وهذا ما يعبر عن الموقف الإسرائيلي تماما.
• محاولة تثبيت وترسيخ مفهوم النزاع الحدودي على الصراع العربي الإسرائيلي، وهو على الأقل ما تحمله وتدلل عليه الأطروحات الأمريكية الإسرائيلية وهذا يتجلى بشكل واضح في النظرة الإسرائيلية للعملية السلمية والتي تدعو الى اقامة كيان فلسطيني ما بصرف النظر عن تسميته بحدود مؤقتة هلامية الشكل ، يتفاوض مع الجانب الإسرائيلي على القضايا المُختلف عليها وهو ما يروج له انصار الواقعية السياسية تحت شعار انجاز ما يمكن انجازه، بمعنى ان المطلوب تقديم التنازلات من قبل الجانب العربي والجانب العربي طبعا لا يبخل بتقديم هكذا تنازلات.
• محاولة ترسيخ مفهوم محور دول الإعتدال العربي ( السني الظاهر) في مواجهة المد الشيعي( الخطر الإيراني.) لخلق فزاعة سياسية جديدة امام النظام العربي الرسمي خدمة للمصالح الإمريكية في المنطقة في مواجهة المد القومي العربي المستند الى المقاومة والممانعة.
• ثمة فشل سياسي امريكي في المنطقة وتتم المحاولة لتجيير بعض الانجازات المسماة سياسات تطبيعية عربية اسرائيلية لمصلحة سياسات ادارة ترامب وذلك عبر ادارة العلاقات العامة حول القضية الفلسطينية.
• محاولة تغير مفهوم الأمن القومي العربي العربي وتغير بوصلته بإتجاه ايران وتراجع الخطر الإسرائيلي على الأمن القومي العربي برمته.
• ملاحظات نتنياهو فيما يخص اتفاقيات التطبيع مع بعض الدول العربية وتمظهره بالأطروحة العقلانية لمبادرات السلام وطبيعة ايجابياتها ما هي الا محاولة استثمارية سياسية لأرصدته المنهارة في اوساط المجتمع الإسرائيلي على خلفية اخفقاته في إدارة الشأن السياسي الإسرائيلي على المستويين الداخلي والخارجي.
• ثمة محاولات لتدجين قوى الممانعة والرفض للسياسات الأمريكية وبالتالي الإسرائيلية في المنطقة.
وبهذا الشكل ارى ان التعاطي الواقعي والقضايا المطروحة انما يصب في خدمة دبلوماسية الفعل الأمريكي والإسرائيلي والذي لا يتعدى في أحسن احواله شأنا من شؤون العلاقات العامة يتم العمل على مساراته المختلفة ظرفيا وفقا للأجندة الإقليمية الإمريكية في المنطقة ومتطلباتها.
وبناء عليه ووفقا لما تشهده الساحة الفلسطينية بالظرف الراهن اعتقد ان بعض منظمات المجتمع المدني والتي بدأت بترتيب صفوفها وتمارس انشطتها في ظل غياب الفعل الفصائلي الوطني ونفور قطاعات جماهيرية كبيرة من هذه الفصائل والقوى جراء سياساتها خلال العقود الاخيرة وعجزها عن انجاز متطلبات المرحلة على المستويين الداخلي والخارجي مما ادى الى حالة شعبية جماهيرية، سيؤدي حتما لتمظهر هذا المنظمات والشخصيات القائمة عليها في اطر مجتمعية شعبية على اساس التنظير للواقعية السياسية الجديدة والتخلي عن اللغة الخطابية الفلسطينية الكلاسيكية والتعايش مع الاطروحات المسماة باطروحات السياسية الدولية والاقليمية والتعامل مع الاتفاقيات العربية الاسرائيلية الجديدة. ولعل هناك الكثير من الشخصيات الفلسطينية العاملة بهذا الحقل قد بدأت بالفعل بالتنظير والترويج للبضاعة الامريكية الاسرائيلية العربية الرسمية الجديدة والقبول بها او التعاطي معها ومع ما تأتي به والاستفادة من مناخاتاتها على حسب اقوالهم في سبيل الانتعاش الاقتصادي في المناطق الفلسطينية وفتح الحورات مع الاخر وانجاز وتطوير اطروحات سياسية جديدة على قاعدة ان الواقع الاقليمي والدولي في حالة تغير وتغيير. ولا بد من الاشارة اخيرا الى ان المنهج السياسي لما يسمى بالواقعية بدأ بالتأثير في بوتقة الحركة الوطنية الذي خلق تيارات تتصارع على سدة قيادة اطر الحركة الوطنية عموما الأمر الذي بات يهدد اركان الثوابت الوطنية التاريخية الفلسطينية.
وملاحظة اخرى لا بد من التوقف عندها وهذه الملاحظة تتعلق بعملية تمويل هذه المنظمات وبالتالي اجندات العمل الملتزمة بها في اطار المجتمع الفلسطيني.