بقلم: عيسى قراقع*
المطر والحب والصلاة والشتاء تجتمع الآن في ساحة مهد المسيح عليه السلام في بيت لحم، الأراضي الفلسطينية المقدسة رغم مرور عام جاف وقاسٍ على الشعب الفلسطيني تحتفل بأعياد الميلاد المجيدة والكل يحمل شمعة وحجراً ودعاء ورجاء.
اني رأيت الأسير المقدسي الكفيف علاء البازيان في الساحة يقرع جرس الكنيسة، يلقي أغلاله الثقيلة ويفتح باب كل سجن ومعسكر بالحقيقه، معتمدا على يديه ورؤياه، وعلى حمامتين ترفرفان فوق كتفيه لتكون الأرض كلها عيدٌ وغناء.
اني رأيت الأسير علاء البازيان قادماً من مدينة القدس، ليس معه سوى صدى صوته النبوي وجناحين للسلام، يوزع الهدايا على الأطفال ويتفقد اركان المدينة، يتجاوز الجدران والحواجز والشوارع الالتفافية والبوابات الاسمنتية، يدق على الأبواب الموصدة، يخرج النور من بين عينيه وهو يمسك بيدي طفلته الصغيرة انتصار، يزور عائلات الأسرى ويقرأ الفاتحة أمام صرح الشهداء في مخيم الدهيشة، يرى أبعد مما نراه، يرى شعباً يقاوم بالحلم ويخلع بصموده اليأس والمسامير والسياج، ويرى في صلاة منتصف ليلة الميلاد أرواحاً وسحباً والأرض تعانق السماء.
بعد أكثر من 27 عاماً يعود الأسير علاء البازيان إلى فلسطين، لم يره السجانون وجهاز الأمن الإسرائيلي، لم ترصده الطائرات والصواريخ وأجهزة الانذار، كان هو المبصر ودولة الاحتلال هي العمياء، كان طريقه واضحاً واضحا وطريقهم كلها معسكرات وألغام وخوفٌ وتطرف واستيطان، ترك جسده المطرز بالشظايا في مؤبده وعادت روحه طليقة حرة بعد غياب، القدس نادت عليه ومدت له ذراعيها، فتحت له بواباتها السبع والآيات والتاريخ وغمرته ببشارة الأنبياء.
هنا أرضي ومعبدي ومهدي وأمي وطفولتي وأقوالي الأولى، يقول علاء، هنا حبة قمحي وملائكتي فاتركوا يا بَني اسرائيل أمي وسريري وبيتي وفكوا عني قيود السجن والمقبرة، هنا أبنائي وبناتي القابعين في الزنازين يخيطون لي مهداً وليس كفناً، يحتفلون بعودتي لأبصر مالا تبصرون، ولأعبد ما لا تعبدون، الحب رهن بصيرتي والحق والثورة والمغفرة.
أنا الشاهد المقدسي على الجريمة الاسرائيلية المستمرة بحق شعبي الفلسطيني، عشت كل المراحل والمجازر والمذابح خلف القضبان، ودعت أصدقاءً قتلوا قهرا ومرضا وتعذيباً ولم تجف دماؤهم عن الجدران، أنا رهين ألف محبس وألف لائحة اتهام، انا الشاهد على من سرق عيني ولكني لازلت أراه، انا الشاهد اليومي على عمليات القمع والبطش التي تستهدف تحطيم الانسان، انا الذي احترقت كثيراً لكن القدس انقذتني والنبوءة والصلاة واغاني الرعاة.
انا الأسير الكفيف علاء البازيان، انا السماوي الفلسطيني الطريد، انبعثُ من الرماد ضوءً، احمل تعاليم المسيح وذخيرة حية من بطولات آلاف الأسرى والأسيرات خلف القضبان، اتقاسم الوجع مع زملائي المرضى ومع الذين يقضون أكثر من ربع قرن من أعمارهم في السجون بإنتظار قرص شمس وحبة دواء، نرفع الموت المؤقت قليلاً، نرمم أجسادنا كي لا تصدأ أحلامنا، نبقى مستيقظين نشعل النار حتى يحترق السجان.
في القدس ولدت حياً، ولدت مبصراً وللقدس أعود، القدس عيناي، أمشي في ساحاتها وشوارع البلدة القديمة، أشم رائحتها وبخورها وخبزها ودمها الطازج، أمر عن سلوان والعيسوية والطور والمكبر وشعفاط والعيزرية وبيت حانينا وصورباهر، أصعد الجبل واغتسل بزيت الزعتر والزيتون، اتبع الينبوع وصوت الآذان والأجراس وخطى الأجداد، عيناي تدلني على المكان، أزور بيوت الأسرى والشهداء: سمير أبو نعمة واسراء جعابيص وأحمد مناصرة ومحمد أبو خضير وعمر القاسم واسحق مراغة وعزيز عويسات ومحمد ابو هدوان وقاسم ابو عكر وحسام شاهين وشروق دويات وجمال ابو صالح وعدنان مراغة ووائل قاسم وناصر عبد ربه، أزور صومعة الأب المناضل المطران كبوتشي، أقرا الفاتحة على قبور شهداء هبة القدس، اتصدى مع شعبي للمستوطنين المجرمين الذين يقتحمون باحات الاقصى، واهتف مع النساء المقدسيات المرابطات، اطلق طائرة ورقية مشتعلة من فوق السياج الفاصل في غزة، اوجه تحية للبحر المتوسط وللكرمل والجولان وحيفا ويافا والناصرة.
عام جديد، وها أنا أضيء شجرة ميلاد حريتي، فما زلت حياً، انتظر من يدلني على بيتي ويمسك بيدي، انتظر من يضع حداً لوجعي ويقرع معي أجراس الحرية، انتظر من يخرجني من هذه الظلمة، انتظر مسيحاً يحمل صليبه ويتحدى الآلام والمجنزرة، مسيحاً يفك القيود عن يديّ وعينيّ، واقفاً لا يركع ولا يخضع للإبتزاز والمساومة.
الأسير علاء البازيان يضيء معنا شعلة انطلاقة الثورة الفلسطينية هذا العام، بعينيه يوقظ النار برداً وسلاماً على جنود لازالوا خلف الخطوط بإنتظار مسيح يقوم من وسط الرماد، يفتح الأبواب الموصدة يفك القيود ويعلن في العالمين سلام المؤمنين المناضلين الأحرار.
عام جديد، تتحرك عقارب ساعة علاء البازيان، ساعة القدس والمخاض، ساعة المؤبدات اللامتناهيات في زمن السجن، ساعة الموت المؤجل، لعل هناك من يصرخ ويحرر الأشباح من صمت الجدار.
عام جديد، طفلتاه انتصار ومنار تبحثان عن أبٍ كفيف في أحياء القدس يمسك عصا وبندقية وذاكرة، يرى كل الدنيا بيضاء من خلف نظارته السوداء، متى يعود أبانا؟ تسأل الطفلتان وهن يرضعن حليب القدس من كل صنوبرة وزيتونة وآية في كتاب الرحمن، ( بدنا تروح من السجن يا بابا عشان انورلك عينيك) تقول الطفلتان وهن يحدقن في عيون القدس وقد صارت جمرة حمراء.
أنا الأسير المقدسي الكفيف علاء بازيان، ارى وطني حراً ولا أرى اسرائيل سوى معسكرا تعشق الموت والحرب وتكره الحياة، حليب القدس في روحي، يشع الزيت في دمي، وليس للمحتلين في بلدي غير ما تركوه من قتل وحرق وخطف وأساطير كافرة.. الإسرائيليون ينشدون للحرب الآن وللحرب القادمة، وأنا في القدس أصلي: المجد لله في الأعالي وعلى الأرض المحبة والحرية والمسرة والسلام.
*عضو المجلس التشريعي ورئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين السابق