بقلم: السفير عيسى جميل قسيسية
كانت إدارة الرئيس ترامب قد مضى على دخولها البيت الأبيض أشهر عديدة، عندما تواجد الدكتور صائب عريقات في الولايات المتحدة ،حيث أجرى عملية غاية في الخطورة لزرع رئة له، والتي تكللت في النجاح ومدته بالحياة ليتواجه مع إدارة أميركية قررت العداء في توجهاتها وسياستها تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته.
البداية كانت في واشنطن عندما جاءه صهر الرئيس الأميركي جاريد كوشنير ومبعوث الإدارة الأميركية لعملية السلام في الشرق الأوسط غرينلد، في مقره حيث كان عريقات يقضي فترة نقاهة، وكان قد إجتمع مع مبعوثي الرئيس ترامب أكثر من 38 مرة منذ تولي الإدارة الحكم في الولايات المتحدة.
وكانت المفاجأة عندما تنبه الدكتور صائب أن هذه الإدارة ليس لديها النية للسماح لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية للعمل على الساحة الأميركية، وهنا كانت لحظة الحقيقة عندما وجه الدكتور كلامه الى ممثل اعتى دولة في العالم، وقال “أنتم قررتم عدم التجديد لإستمرار عمل المكتب التمثيلي للشعب الفلسطيني، وأنا أقول لكم ومنذ هذه اللحظة أنكم لن تجدوا فلسطيني وطني واحد يتكلم ويتواصل مع إدارتكم هذه”.
وللوهلة الأولى إعتقدت الإدارة الأميركية بأن كبير المفاوضين الفلسطينين قد أدلى بهذه الرسالة في لحظة إنفعال، وأنهم سيجدوا من سيتكلم ويتماشى مع ما يخططوا له.
وفي هذه الأجواء وبينما كانت التحضيرات جارية على قدم وساق لزيارة الرئيس محمود عباس الى البيت الأبيض في أوائل كانون الثاني من العام 2017، أدرك الدكتور صائب أن رئيس الولايات المتحدة ينوي أيضاً إعلان نقل السفارة الأميركية الى القدس والإعتراف بها عاصمة لدولة إسرائيل، وما كان من الدكتور عريقات إلا أن يحزم أمتعته وهو في فترة النقاهة، فركب أول طائرة للرجوع الى الوطن مع إدراكه التام أن المواجهة الحقيقية مع إدارة ترامب وسياساتها المعادية للقضية الفلسطينية، قد بدأت وهو يستند بهذا على تراكمات نضال وتضحيات شعبه، ومسترشداً طريقه من صلابة ورؤية الرئيس محمود عباس.
ومنذ تلك اللحظة التي قررت فيها الإدارات الأميركية تبني القرارات المعادية لحقوق الشعب الفلسطيني ومتناقضة مع مواقف الإدارة الأميركية السابقة والشرعية الدولية فإن إداراك الدكتور صائب لخطورة هذه السياسات على مستقبل القضية الفلسطينية، جعلت منه جندياً صلباً مشتبكاً دبلوماسياً وسياسياً وكل ما له من قوة وعنفوان مع هذه الإدارة ومواجهتها على كافة الأصعدة وفي المحافل الدولية، فربط الليل في النهار، وقد عشت معه معاركه السياسية التي خاضها بكل شراسة من أجل حماية حقوق الشعب الفلسطيني من أيدي العابثين، وهو لم يهادن ولم يتهاون، وبقي واقفاً شامخاً متمسكاً بمبادئه الوطنية، ولم يستكن لحظة خلال مرضه، وكم هي المرات التي كان وجب عليه أن يأخذ إستراحة المحارب ويلتفت الى صحته، وكما أرادت له زوجته “نعمة” وعائلته الكريمة، ودائماً بقي مثابراً وقد ملأت تصريحاته الدنيا في مقارعة إدارة ترامب، ولم يترك عاصمة أو دبلوماسياً إلاّ وتحدث معه وشرح الموقف الفلسطيني الثابت على الرغم من إشتداد الضغوطات وحتى التهديدات. وكان له النصيب في التحريض والوعيد الأميركي في الإعلام ومن خلال القنوات الدبلوماسية.
ومن يتجرأ للقول لمندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة السفيرة نيكي هيلي إخرسي “Shut Up”، فقالها رئيس المفاوضين ومن خلال الفضائيات العالمية، حتى وصلت رسالته مدوية في أروقة البيت الأبيض.
وجاءت خطة ما يسمى “السلام من أجل الإزدهار” ليقرأها الدكتور صائب بتفاصيلها، فكانت دائرة شؤون المفاوضات وذراعها وحدة دعم المفاوضات سنداً له في كل هذا. وكان علينا أن نستقبل مكالمات الدكتور في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وفي زمن الكورونا وأن نكتب ونرسل الرسائل الى عواصم العالم في فترة قياسية.
نعم، لقد شهدنا لقامة كبيرة، وعلى الرغم من ظروفه الصحية والجائحة، الاّ أنه لم يستكن لحظة، مؤمناً بأن عهد الإملاءات والعجرفة لا بد أن ينتهي، وأن فجر الحرية آتٍ وأن العدل والسلام سينتصران على أرض القداسة.
وجاءت لحظة الفراق وقد سلم الدكتور صائب عريقات روحه الى ربه، مردداً دائماً قوله “إن الله قد أكرمنا وشرفنا أن خلقنا فلسطينيين لنخدم القضية جنوداً مخلصين لكل ذرة تراب على هذه الأرض المباركة”.
وإن لم يعش شهيد الوطن ليشاهد سقوط نيرون أميركا المدوي، فإن بوصلة التاريخ ستشهد له وللرئيس محمود عباس شرف الكرامة والعزة ونضال الأوفياء.
نعم قال لهم الدكتور صائب في عقر بيتهم في واشنطن: ” إنكم لن تجدوا ولو فلسطيني واحد يتحدث معكم”، وفعلاً إنتهى عهد ترامب بعد ثلاث سنوات عجاف، ولم تجد هذه الإدارة اي فلسطيني ليتساوق مع مخططاتهم وسقط ترامب وبقي الدكتور صائب على العهد.