بقلم: المحامي إبراهيم شعبان
بعد مناقشات ومذكرات وتأجيلات ومداولات ومقدمات استغرقت زمنا طويلا، انتهت الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية الدولية المنعقدة في لاهاي يوم الجمعة الفائت في الخامس من شهر شباط عام 2021، إلى إصدار قرار تمهيدي حاسم مكون من ستين صفحة في معالجة نقطة واحدة تتعلق بمدى اختصاص المحكمة في جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجريمة العدوان والإبادة التي تشتبه إسرائيل في ارتكابها في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد عام 1967. وكان طلب تحديد الاختصاص الإقليمي لدولة فلسطين قد قدم من المدعية العامة فاتو بنسودا بعد رحيل أوكامبو، عملا بالفقرة الثالثة من المادة التاسعة عشر من ميثاق روما لعام 1998الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية حسما لأي نقاش مستقبلي حول طبيعة عضوية دولة فلسطين لميثاق روما 1998.
وقد هلل الجميع لصدور هذا القرار سواء من السياسيين أو القانونيين أو من الجمهور الوطني، واعتبروه انتصارا للعدالة والحق في مواجهة الصلف الإسرائيلي وجرائمه. ولا جدل أن الشكر يجب أن يزجى لكل من ساهم في صدور هذا القرار التمهيدي وهم كثر عبر تقديم مذكرات إلى المحكمة من خلال أصدقائها، سواء من الفلسطينيين أو من محبي فلسطين الأجانب، وسواء أكانوا أشخاصا طبيعيين أو معنويين ، ولعل من أبرزهم نقابة المحامين الفلسطينيين، وفقهاء فلسطينيون وأجانب، عرفوا بموقفهم المدافع عن القضية الفلسطينية.
علما بأن الجانب الآخر استشعر الخطر الكامن في الموضوع، فقدم أضعاف المذكرات التي قدمها الفلسطينيون ومن يتعاطفون معه. حتى أن جهات عدة خاصة وأفراد ومنظمات رسمية حكومية أو حتى حكومات مثل دول ألمانيا والمجر والتشيك والبرازيل والنمسا حتى أوغندا ساهمت بهذا الجهد المشبوه السيء دفاعا عن الباطل وبعضهم أعضاء لدى ميثاق روما ويفترض بهم أن يدافعوا عن الميثاق ويسعوا لتنفيذه وألا يطعنوه من الخلف لاعتبارات غير مفهومة.
وقد أشارت المحكمة لذلك بطريقة ساخرة مبطنة حينما اشارت إلى أن عدة دول تؤيد وجود دولة فلسطين، وأردفت قائلة بقرارها لهذه الدول الأعضاء أين كنتم حينما قدمت فلسطين طلبا للانضمام إلى ميثاق روما. ولماذا لم تعترضوا على انضمامها، ولماذا لم تعترضوا على انضمامها لمجموعات شكلتها إدارة المحكمة؟ بل لماذا قبلتم مساهمة فلسطين في موازنة المحكمة الجنائية بحد ذاتها والتي هي شخص معنوي؟ واضافت أن دولة فلسطين تقيدت والتزمت بميثاق روما وقواعد المحكمة وقوانينها من حيث الإجراءات والإثبات امر مفهوم نسبيا أن تقدم نقابة المحامين الإسرائيلية مذكرة لمناصرة الموقف الإسرائيلي، لكن تقديم هذه الدول التي يفترض حيادها في نزاع قانوني، مذكرات للمحكمة ترفض بموجبها الاختصاص الإقليمي لدولة فلسطين، فأمر غير مقبول بل ويقترب من العنصرية، ويجب أن يشّهر به ويدان بكل الكلمات وأن توجه لحكومات الدول هذه رسائل احتجاج على موقفها المنحازالمتشنج هذا.
اقترب من هذا الموقف موقف غاضب من الإسرائيلي والأمريكي الرسميين. فقد بادر نتنياهو بتصريحات لا تمت بصلة لقرار المحكمة بل ذهب بعيدا إلى اسطوانته المشروخة والتباكي أن المحكمة لا سامية تقف ضد اليهود وأدان قرارها. أما أمريكا فقد أيدت الموقف الإسرائيلي، فهي غير بعيدة عن الموقف الإسرائيلي من حيث عدم العضوية بالمحكمة الجنائية الدولية. بل ذهب الخارج بومبيو وزير الخارجية الأمريكي السابق، إلى فرض عقوبات وقيود على حسابات قضاة المحكمة والعاملين فيها في خطوة غير مسبوقة. والأهم أن الجنود الأمريكيين سيكونون محل مسئولية جنائية عن جرائمهم في العراق وأفغانستان، ويلاحقون عليها وبخاصة أن المحكمة ذاتها استشهدت بما قررته قبل زمن قصير بالشأن الأفغاني والمسئولية الأمريكية، واعتبرت نفسها ذات اختصاص رغم عدم انضمام الولايات المتحدة الأمريكية لميثاقها.
قررت المحكمة الجنائية الدولية من خلال دائرتها التمهيدية الأولى، والتي تسمى بالإنجليزية PRE-TRIAL CHAMBER، قرارا في غاية الأهمية بالنسبة للإقليم الفلسطيني بشأن اختصاص هذه المحكمة بما يجري على إقليمها من جرائم إسرائيلية. واعتبرت المحكمة أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة وشرقي القدس جزءا من إقليم الدولة الفلسطينية. وبالتالي للمحكمة اختصاص في محاكمة من ارتكب الجرائم على الإقليم الفلسطيني الذي يعرف اليوم بدولة فلسطين، سواء في مراحل البحث عن المتهمين وصدور مذكرات القبض عليهم، والتحقيق معهم، ومناقشة شهود الإثبات والنفي وسماعهم، وإصدار الأحكام بحق المتهمين الإسرائيليين بغض النظر عن صفتهم وموقعهم وجنسهم ودينهم وعرقهم ولغتهم وثروتهم، وتنفيذ الأحكام الجنائية بحقهم.
قرار المحكمة الجنائية الدولية يفتح الباب واسعا أمام المدعية العامة لممارسة صلاحياتها عملا بميثاق روما. قرار المحكمة أغلق بابا واسعا كان سيظل سيفا مسلطا على رقاب قضاة المحكمة من خلال موضوع قانوني جوهري اسمه الاختصاص الإقليمي. وهو من اركان العدالة الشكلية وتركه مفتوحا ينزف يجعل الولوج إليه، ثغرة خطيرة قد تهدد مسيرة المحكمة والمحاكمات والإجراءات برمتها، ويجعلها قابلة للبطلان وقضاء ردح من الزمن في نقاش سفسطائي. لذلك آثرت المدعية العامة اللجوء للفقرة الثالثة من المادة 19 من ميثاق روما مبكرا، وقبل الدخول في اساس الاختصاص الإقليمي ومباشرته حتى لا تفيق على أمور ودفوع غير متوقعة تهدد مسيرة المحكمة من بداياتها، رغم الطول الزمني وعدم الحاجة لهذا البعد.
قرار المحكمة الجنائية الدولية أرسى اختصاصا قضائيا لها في الجرائم الإسرائيلية وفق اختصاص المحكمة كما رسمه ميثاق روما لعام 1998 وتعديلاته في المادة الخامسة، بل فتح الباب واسعا دون عوائق شكلية لممارسة اختصاصات المدعية العامة للمحكمة. بكلام آخر هي ترجمت النصوص القانونية التي تحدد اختصاصها إلى واقع قضائي ملموس وبشكل غير مسبوق. بل شكلت سابقة قضائية يصعب العودة عنها إذا أيدتها محكمة الاستئناف التي يجب أن تظر في الإستئناف بشكل مستعجل. ولا ينتقص من أهمية هذا القرار، أنه صدر بالأغلبية، وأن هناك قاضيا من الهيئة الحاكمة مخالف لما ذهبت إليه الأغلبية. بل يجب دراسة قرار المخالفة وتحليله ونقضه ما أمكن.
الخطر المباشر على قرار المحكمة الجنائية الدولية، هو أن يقوم مجلس الأمن بالتدخل في هذا القرار القضائي وهو أمر ليس له سابقة. فقد سمحت المادة 16 من ميثاق روما، له اي لمجلس الأمن أن يطلب من المحكمة، بقرار صادر بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، عدم جواز البدء أو المضي في تحقيق أو مقاضاة، بموجب نظام روما لمدة اثني عشر شهرا، مع جواز التجديد هذا الطلب للمدة ذاتها وبالشروط ذاتها. وأغلب الظن أن مثل هذا الطلب صعب التحقيق بوجود دول مختلفة تجلس على المقعد الدائم في مجلس الأمن متباينة في عضوية ميثاق روما، مع أن مصالح الدول أحيانا قد تتفق بشكل شاذ.
وقد تتعرض السلطة الفلسطينية لضغوط هائلة في هذا الموضوع وهي ستتعرض حتما، وبخاصة لسحب إعلاناتها من أمام المحكمة الجنائية الدولية. ويجب عدم الإستهانة بهذه الضغوط التي لا نستبعد أن يكون جزءا منها أمريكي وأوروبي وبخاصة الجانب المالي من وعيد وتهديد وثواب ومكافئات. ولنا أن نتصور أهمية البعد المالي في أوسلو وعدم دفعه لدولة فلسطين، والمعونات الدولية الأوروبية والأمريكية، فقد قالوا في الحكم، من يدفع يأمر، ومن ينقد الزمار يفرض عليه اللحن. فرغم عدم صلة أوسلو بالإختصاص الإقليمي لدولة فلسطين كما بينت المحكمة في قرارها التمهيدي، إلا أن أثره المالي لا يخفى على أحد.
ونرجو أن لا يتكرر داخليا، ما حصل أمام المؤتمر المنعقد لمنضمي الدول لاتفاقية جنيف الرابعة، لبحث وماقشة المادة الأولى من اتفاقيات جنيف الأربع ومسؤولية الدول عن تنفيذ التزاماتها عن هذه المواثيق. حينها حضر مندوب السلطة آنذاك وأفشل الإجتماع الهام الذي سعت الدول لعقده بجهد جهيد، بكلمات فجة واهمة مستفزة.
ويجب ان يستعد الفلسطينيون لموعد مغادرة المدعية العامة الحالية للمحكمة الجنائية الدولية عملها في نهاية هذا العام، حيث يتأثر العمل القانوني بطابع شخصي نظرا للتفسيرات المتباينة لموضوع قانوني على وجه محدد. فاوكامبو الأرجنتيني الطامح والطامع في هارفارد رفض طلبا لوزير العدل السابق الدكتور علي خشان في موضوع مشابه لقرار الدائرة التمهيدية بحجة أن فلسطين ليست دولة ومكانتها القانوني منقوصة لذا لا تقبل طلباتها القانونية. وبالتالي بأن تسعى فلسطين لشخص مقبول عليها وبخاصة أنها عضو في ميثاق روما.
وعليه تقوم المدعية العامة بعد هذا القرار وتبليغه لجميع الدول الأطراف في ميثاق روما بهذا القرار وللدول التي ستتأثر بهذا القرارسواء بشكل فردي أو بسبب إقليمي. ولها أن تبدا مباشرة بإجراء تحقيقاتها وجمع الأدلة وفحصها والشهود وحمايتهم واتخاذ التدابير المناسبة لضمان فعالية التحقيق والتماس المعونة الدولية والكشف والحفاظ على الأدلة وتقدير كل ذلك وتوجيه الإتهام للجرائم المحصورة في المادة الخامسة من ميثاق روما وإصدار مذكرات القبض والتعاون مع الإنتربول في هذا الصدد.
قبل ترك الموضوع، يجب أن نميز بين ثلاثة أمور مختلفة يخلط بينها العامة. فمثلا قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي عام 2004 وهي غير مختصة في الجرائم بل بالأمور المدنية والتجارية والحدودية، هو رأي إفتائي استشاري قررته المحكمة المؤلفة من خمسة عشر قاضيا من دول العالم في مدى قانونية الجدار من عدمه. أما تقرير جولد ستون فهو تقرير خبير قانوني فرد عينه مجلس حقوق الإنسان في جنيف، للتحقيق في موضوع جرائم الحرب التي اقترفتها القوات الإسرائيلية بعد حرب غزة. وأخيرا قرار الدائرة التمهيدية المنبثقة عن المحكمة الجنائية الدولية القابعة في لاهاي، فهي تختص في الجرائم الخطيرة على صعيد عالمي ولم تقم دولها بمحاكمة أفرادها المجرمين حتى لا يهرب أي مسؤول من مسؤولياته تحت ستار الحصانة أو الجنسية، ولا حصانة فيها لأي مسؤول دولي أو لرتب عسكرية علت أو دنت.
هذا القرار لبنة صغيرة ولكنها بارقة أمل، في مسيرة قانونية طويلة. فالمحاكمة الحقيقية لمجرمي الحرب الإسرائيليين لم تبدا بعد والطريق طويل جدا زمنيا، تعتوره صعاب جمة وتنتظره جهود كبيرة. وحتى عند تحقق ثماره، سيشكل عنصرا واحدا من عناصر القوة الفلسطينية المتعددة الأخرى، وسيبقى القانون الدولي بدون مخالب. فلا يظنن أحد أن هذا العمل كفيل لوحده بتحقيق النصر الفلسطيني وإرجاع الحق السليب وبالتالي أن نضع كل بيضنا في هذه السلة القانونية ونركن بعدها إلى الكسل والخمول. فالله يساعد أولئك الذين يساعدون أنفسهم والجميل من يصنع الجميل!