بقلم: جمال زقوت
رغم أن الطريق نحو صندوق الاقتراع باتت تبدو سالكة، إلا أن العثرات التي تعترض إنجاز هذا الاستحقاق ما زالت ماثلة. سواء المتعلقة بالأزمات الداخلية المتراكمة لدى الأطراف المهيمنة على المشهد، أم تلك التي تضعها اسرائيل؛ سيما المتعلقة بمكانة مدينة القدس ومشاركة ناخبيها ترشيحاً وتصويتاً، وغيرها من الحسابات الذاتية التي تتمحور بين نزعات الهيمنة والتفرد أو تلك المتصلة بجذور الانقسام، أو بالمحاصصة التي توفر إمكانية الحفاظ على الأمر الواقع الذي يُؤَمِّن استمرار التفرد وتوزيع الحصص بينهما، أو تلك المتصلة بقلق اسرائيل من مدى إمكانية إبقاء احتواء الحال على ما هو عليه بما وفره لها من آليات ليس فقط لضمان بقاء حالة الانقسام، بل واستفراد حكومة الاحتلال بكلا الطرفين وإحكام الإمساك بعوامل بقائهما في خدمة بقاء هذا الواقع .
حكومة الاحتلال الإسرائيلي التي حصدت من حالة التمزق وقلة الحيلة في المشهد الفلسطيني إنجازاتها التاريخية التي عملت عليها منذ سنوات طويلة، وربما لم يخطر في بالها إمكانية أن تتحول من وجهة نظرها إلى واقع يقدمه لها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على طبق من فضة، والذي كان يتسابق مع عتاة بلطجية الفكر الصهيوني في مدى إخلاصه لعصارة استراتيجيتهم القائمة على إدارة الظهر لحقوق الشعب الفلسطيني، والتعامل معهم كمجرد سكان ربما يكون وجودهم عابر في انتظار متغيرات كبرى لاستكمال ما لم ينجزوه في نكبة عام 1948.
إذا كانت هذه استراتيجية الاحتلال الاسرائيلي الراهنة وفي المدى المنظور، ما لم يحدث تغيير جذري في موازين القوى، فإن أي معالجة للأوضاع الفلسطينية تتوقف على كيف يمكن أن تشكل الانتخابات خطوة، مهما كانت صغيرة ولكن واضحة، نحو وضع الفلسطينيين في ظروف تساعدهم على مواجهة هذه الاستراتيجية التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية.
صحيح أن الضوء الأخضر الأمريكي، وتهيئة ميدان الحلبة السياسية التي وفرتها إدارة ترامب، لم تعد هي التي تتحكم في استراتيجية البيت الأبيض، ولكن الوقائع التي ولّدتها خطة “نتانياهو ترامب” لا تقتصر فقط على أي دور يمكن أن تلعبه الإدارة الأمريكية الجديدة للخروج من هذه الوقائع أو بالحد الأدنى تصويبها، بل فإنه بدون خروج الفلسطينيون من قواعد اللعبة التي أدخلتهم إلى هذا الواقع المعقد والخطير، والذي لا تكفي لمعالجته سياسة الرضى عن النفس والاعتقاد أن مجرد رفض أو عدم القبول الرسمي لهذه الاستراتيجية، فإنه قد أطيح بها.
هنا تبرز أهمية تقديم إجابات واضحة إزاء جدية معالجة الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه من حالة ضعف غير مسبوقة، والتي ما زالت تتعمق يومياً، طالما أن الأطراف المهيمنة على المشهد الداخلي لم تقرر بعد الخروج الكامل من الطريق التي أوصلتنا لما نحن عليه اليوم، أو أن تأتي الانتخابات بنتائج تجبرها على التراجع عنه. والتي لا تقتصر فقط على مغادرة أطواق أوسلو وقواعدها ومسارها، وليس الإصرار على جلب الأطراف التي عارضت هذا المسار، إلى ما هو في الواقع أقل منه بفعل التآكل الهائل في الموقف الفلسطيني والانحياز الأمريكي للمواقف الاسرائيلية منذ انطلاق عملية مدريد ومن بعدها أوسلو، بل وبلورة استراتيجية مغايرة تضعنا على طريق جديد يفرض على العالم وعلى اسرائيل التعامل بطريقة مختلفة مع قضيتنا وحقوق شعبنا .
والسؤال الذي يُشهر اليوم: لماذا، وبعدما كادت أن تُطوى صفحة ما بات يعرف بشروط الرباعية، يتم العودة إليها كشروط على القوائم المترشحة لانتخابات المجلس التشريعي، ونحن نعلم أن تلك الشروط كانت أحدد مسببات الانقسام وتداعياته ولا أقول كل أسبابه؟ كيف يمكن لسياسة تقديم تلك الشروط قيداً ذاتياً على حركتنا السياسية، والتي إذا كان هناك من قيمة سياسية فعلية للانتخابات فهي أن تشكل حاضنة برلمانية لاستعادة الوحدة وتمهيد الطريق لخروج نهائي وآمن من مسار أوسلو وليس إعادة بناء أفخاخ هذا المسار، وبأيدينا نحن هذه المرة.
هل هذا الطريق هو الذي سيدفع حكومة الاحتلال لمراجعة خياراتها؟ ويفرض أيضاً على الولايات المتحدة عدم الانتظار طويلاً حتى تبلور سياستها الجديدة نحو ما يمكن تسميته بإعادة فتح الباب نحو تسوية متوازنة وجادة، جوهرها اعتراف اسرائيل المسبق بحقوقنا الوطنية وفي مقدمتها حق العودة وحق شعبنا في تقرير المصير وليس العودة لمفاوضات عبث فيما إذا كان لنا مثل هذه الحقوق أم لا !
إن البرلمان الذي يحتاجه الفلسطينيون يجب أن يكون وعاءً لاستعادة وحدة الوطن ومؤسسات السلطة الوطنية، وليس تقاسمها؛ بتكريس الأمر الواقع والأسباب التي أوصلتنا إليه. كما أن البرلمان الذي نحتاجه يجب أن يكون أداة فعّالة لوضع أسس معالجة الملفات التي كرست حالة الضعف والتمزق في البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية التي تكاد تعصف بوحدة الفلسطينيين ومكانتهم كشعب، وما حققه من إنجازات في مسيرة كفاحه، وما يتطلبه ذلك من أدوات استنهاض طاقات الفلسطينيين في كل مكان، سواء لجهة إعادة الأمل لمواطني الأرض المحتلة بأن حقوقهم في المواطنة وإعادة الأمل لهم هي جزء لا يتجزأ من الاستراتيجية الكفاحية لتعديل ميزان القوى التي تبدأ من حكومة وطنية رشيدة وفاعلة وقادرة على تقديم كل ما يلزم للناس لتعزيز صمودهم وردم فجوة الثقة مع المواطنين الذين بحاجة لاسترداد كرامتهم حتى يكونوا قادرين على الانخراط في معركة استرداد كرامة الوطن. أو إعادة الاعتبار لمكانة فلسطينيي الشتات، باستعادة المكانة الائتلافية لمنظمة التحرير الفلسطينية من خلال فتح أبوابها لجميع القوى السياسية والاجتماعية غير المشاركة فيها حتى الآن، لتكون جزءاً لا يتجزأ من آليات صنع القرار بعيداً عن كل مظاهر التفرد والدكتاتورية التي تطلّ برأسها في العديد من المحطات والمواقف والسياسات.
في الطريق لتلك المرحلة يبدو أن الأطراف المهيمنة لم تُسلّم بعد بتلك الحقائق، وفي مقدمتها أنه لم يعد بالإمكان استمرار الهيمنة والتفرد على القرار الوطني وذلك المتصل بحياة الناس من أي قوة كانت، بل من الواضح أن هناك صراعاً حاداً على هذا الهدف بين مسارين، يتمثل أحدهما بالنظر للانتخابات كمجرد معالجة شكلية لشرعنة قواعد وبنية النظام السياسي القائم وتكريسها كصيغة للتقاسم والمحاصصة الثنائية، وأخرى تسعى لتغيير القواعد السياسية والبنيوية لآلية ومضمون اتخاذ القرارات المتعلقة بالمصير الوطني. وإنه إذا ما قُدِّر التغلب على العقبات التي تعترض الوصول لصندوق الاقتراع، فإن الذي سيقرر أين سترسي سفينة النجاة هي إرادة الناخب وانحيازه للتغيير، ليس فقط في معالجة قضاياه المعيشية الضاغطة، بل وبلورة لوحة جديدة لطبيعة وبنية النظام السياسي ودوره، وما يتطلبه ذلك من تزكية قوى سياسية جديدة تنهض من رحم الأزمة وقدرتها على تقديم إجابات ملموسة وذات مصداقية للخروج منها، وبما يُمَكِّن من استعادة الثقة والأمل بقدرة الناس على الانخراط الشعبي الواسع في بلورة وصَون مثل هذه الاستراتيجية التي تشكل في الواقع خشبة الخلاص وبوابة الإنقاذ لمشروعنا الوطني بكل أركانه ومرتكزاته، وفي مقدمتها صمود الشعب على أرض وطنه وإعادة بناء هويتنا الوطنية ومؤسساتنا الجامعة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد لشعبنا وقائداً فعلياً في كفاحه نحو إنهاء الاحتلال وانتزاع الحق في ممارسة تقرير المصير كباقي شعوب الكون!