بقلم: العميد أحمد عيسى*
يبدو للمراقب للجولة الأخيرة من الانتخابات الإسرائيلية، سواء قبل فتح صناديق الإقتراع يوم الثلاثاء الماضي الموافق 23/3/2021، أم بعد صدور النتائج النهائية الرسمية يوم الجمعة الموافق 26/3/2021، أن إسرائيل قد حسمت الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لمصلحتها، حيث غاب ذكر الفلسطينيين عن البرامج الانتخابية للأحزاب الصهيونية التي انقسمت إلى معسسكرين، الأول مؤيد لبقاء رئيس الوزراء نتنياهو على رأس الحكومة، والثاني معارض ويسعى لإزاحته عن الحكم.
وعلى الرغم من هذا التعمد في تغييب فلسطين والفلسطينيين عن السجال السياسي والإعلامي الذي أحاط هذه الجولة من الانتخابات، لا سيما من قبل أحزاب اليمين التي لم تغير النتائج النهائية من هيمنتها على العدد الأكبر من مقاعد الكنيست، فإن الحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن الفلسطينيين أنّ هذا التغييب من قبل اليمين الحاكم ليس أكثر من محاولة للتحايل على الذات، الخيار الذي بدأ ينتهجه اليمين الحاكم في إسرائيل منذ بداية بداية القرن الجاري.
وفي هذا الشأن يبدو أن اليمين النيوصهيوني، كما يصفه المؤرخ اليهودي المعروف (ألان بابيه)، لا يزال عازماً على إنفاذ برنامجه القائم على إكمال ما لم يكتمل العام 1984 من تحول ديموغرافي لصالح اليهود في فلسطين لإقامة إسرائيل الكبرى اليهودية التي وعد بها بلفور العام 1917.
ولما كان من الصعب الآن (لأسباب لن تتطرق إليها هذه المقالة) تهجير أكثر من سبعة ملايين فلسطيني يعيشون بين النهر والبحر كما جرى العام 1948، فحتماً ستكون هذه الدولة هي دولة تمييز عنصري (أبارتهايد) تشبه كثيراً دولة جنوب أفريقيا إبان حكم البيض وفقاً لقول (جون ميرشايمر) أستاذ العلوم السياسية ومنسق برنامج “سياسة الأمن الدولي” في جامعة شيكاغو في محاضرة له العام 2012 في ذكرى رحيل هشام شرابي.
وأضاف ميرشايمر أنه لن يكون بمقدور دولة يهودية عنصرية أن تستمر سياسياً، الأمر الذي سيجبرها في نهاية المطاف، ونتيجة لنضال اليهود قبل نضال الفلسطينيين، على التحول إلى دولة ديمقراطية ثنائية القومية، ما يعني نهاية الحلم الصهيوني، وهذا ما يتوجب على الفلسطينيين أخذه بعين الاعتبار، لا سيما وهم يجتهدون لتوظيف الانتخابات المزمع إجراؤها في الثاني والعشرين من أيار المقبل لجمع شتاتهم، واسترجاع معنى الوطن فيهم، وتحديد معنى النصر الذي يبتغونه، والتخلي عن وهم إمكانية تحقُّق حل الدولتين.
وقد جاء تحقيق حزب (القوة اليهودية) بزعامة المستوطن (سموتريتش) الذي وضع لبناته الأولى الحاخام العنصري المعروف (مئير كهانا)، والذي كان أحد تلاميذه (جولدشتاين) الذي نفذ مجزرة الحرم الإبراهيمي العام 1994، والذي يظهر عنصريته وفاشيته وعداءه للفلسطينيين في برامجه وأوراقه الرسمية، لتأكيد حقيقة عزم اليمين الحاكم في إسرائيل على إكمال مشروعه الاستعماري في فلسطين بإقامة إسرائيل الكبرى، وعدم السماح مطلقاً بإقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل، لا سيما أن نتنياهو شخصياً قد بذل جهداً واضحاً في دعم نجاح هذا الحزب، بدا وكأنه لأغراض انتخابية بحتة، لكنه يعكس في الحقيقة اللقاء والتوافق الأيدلوجي بينهما.
ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال ما تضمنه برنامج الحزب من نصوص كان أكثرها وضوحاً النص على أن “حرب الوجود التي يخوضها الشعب اليهودي في أرضه آخذة في الضعف والوهن نتيجة لتوظيف مفاهيم ومصطلحات مشوشة وكاذبة، مثل: التمييز العنصري والعرقي، حرية التعبير، الديمقراطية، الليبرالية والاحتلال… وغيرها من الأكاذيب التي تعزز من قدرة العدو على الانتصار”.
وفي فقرةٍ أُخرى، أضاف البرنامج: “نحن في حزب (القوة اليهودية) نعترف بوجود مشكلة ديموغرافية، لكننا مصممون على معالجتها بالقوة والإرادة، ولذلك لقد ألزمنا أنفسنا بتحقيق الوجه الحقيقي لأطفالنا، من خلال مواجهة التحديات، لا من خلال تجاهلها، ومن خلال ضرب العدو وهزيمته، لا من خلال الاستسلام له، ومن خلال القتال من أجل الدولة اليهودية”. وفي مكانٍ آخر أضاف البرنامج: “إن ذلك يتحقق من خلال تشجيع اليهود للهجرة إلى إسرائيل، ومواصلة الاستيطان، وتهجير العدو من أرضنا”.
وفي السياق ذاته، خاض (حزب البيت اليهودي، المفدال في حينه، ويمينا الآن، بزعامة نفتالي بينت، أحد حلفاء حزب القوة اليهودية، في انتخابات الكنيست الثالثة والعشرين، الذي احتل في الجولة الأخيرة سبعة مقاعد) انتخابات الكنيست السابعة عشرة التي جرت العام 2006 تحت شعار (لا حاجة للاعتذار)، والمقصود بهذا الشعار وفقاً لبينت “أن على اليمين الديني أن يخرج من حالة الدفاع عن النفس، وعن الاعتذار عن وطنيته، وعن إخفاء حبه لأرض إسرائيل، وعن تستره على مشروعه الاستيطاني، وأن يعلن إيمانه العميق بالقيم اليهودية وبتفوق إسرائيل العسكري”.
وينادي بينت وحزبه من خلال هذا الشعار بضرورة التحلل من الضوابط الأخلاقية التي يؤكد بينت أنها تضع قيوداً على لغة القوة، وتقيم وزناً لمنظمات حقوق الإنسان، وتضعف من قدرة المشروع القومي الديني على تحقيق ذاته المنشودة.
وبينما تظهر هذه الاقتباسات، سواء المأخوذة من برنامج حزب القوة اليهودية، أم من شعار حزب يمينا الانتخابي، أن اليمين المهيمن على الحكم في إسرائيل ليس بوارده صنع السلام مع الفلسطينيين، ويواصل السعي لإكمال ما لم تكمله الصهيونية التقليدية العام 1948، فإنها توفر في الوقت نفسه قرائن إضافية على أن إسرائيل قد قطعت شوطاً طويلاً على طريق التحول إلى دولة عنصرية تطبق نظاماً يستعلي فيه اليهود على سواهم من الفلسطينيين في الأرض الممتدة من النهر إلى البحر، وفقاً لتقرير بيتسيلم الأخير وكتابات كبار الأكاديمين اليهود في كندا والولايات المتحدة الأمريكية، مثل بيتر بيرنات وإيان لوستيك، الأمر الذي يؤكد أن المستقبل لفلسطين الديمقراطية، وليس لإسرائيل الكبرى العنصرية، هذا إذا أتقن الفلسطينيون إدارة حرب الروايات بينهم وبين سموتريتش وبن كفير وبينت ونتنياهو.
وفي حين أثارت نتائج هذه الجولة غضب الناخبين اليهود في إسرائيل في المعسكرين المؤيد والمعارض لرئيس الوزراء نتنياهو لعدم سماحها بتمكين أي من المعسكرين من تشكيل حكومة تحظى بدعم أغلبية برلمانية توفر لها الاستقرار، فإن الغضب الذي أثاره فوز الحزب الفاشي العنصري (القوة اليهودية) في أوساط كثير من الجاليات اليهودية حول العالم، بما في ذلك الصهيونية الليبرالية المعروفة بجماعة جي ستريت (J street)، كان أوسع وأعلى صوتاً.
* المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي