بقلم: جواد بولس
أثارت تصرفات بعض النواب العرب واليهود التي رافقت جلسة الكنيست الخاصة باداء اليمين الدستورية المطلوبة منهم وفق “قانون أساس الكنيست”، حركة ما يسمى في لغة العصر كتائب الذباب الالكتروني، واستجلبت، في الوقت نفسه، ردود فعل غاضبة من قبل عدة جهات يمينية عنصرية قامت بتجييش الموقف لمزيد من التحريض على النواب العرب وعلى ناخبيهم اجمعين.
لقد اختار نواب الجبهة الديمقراطية الثلاثة، أيمن عودة وعايدة توما وعوفر كسيف، والنائب عن حزب التجمع ، سامي أبو شحادة، عدم الالتزام بالنص القانوني الذي يتعهد بمقتضاه النائب المنتخَب على أن “يحفظ الولاء لدولة اسرائيل” وأن يلتزم “بتأدية رسالته في الكنيست باخلاص”، واستبدلوه بتعهدهم للعمل ضد الاحتلال وضد العنصرية والعنصريين ومن أجل العدالة والديموقراطية، وذلك في خطوة احتجاجية أرادوا منها تسجيل موقف سياسي في لحظة تاريخية حرجة، ولفت أنظار المجتمع، في اسرائيل والعالم، إلى واقع كارثي ومرير هو في الحقيقة مصدر الجحيم الذي يعيشه الفلسطينيون في الأراضي المحتلة، ويعاني من جرائه المواطنون العرب وجميع الفقراء والبؤساء في اسرائيل.
هنالك من لا يعرف أن عددًا من جلسات قسم اليمين الدستورية، منذ انشاء الكنيست الاولى عام 1951، قد شهدت مثل هذه الأحداث؛ فالمقام والفرصة يغويان النائب أحيانًا، ويدفعانه الى استغلال المنصة بشكل متعمد للاحتجاج الخاطف، أو من أجل تمرير رسالة خارجة عن المنصوص المتوقع، ومستفزة لقواعد البروتوكول؛ وذلك بهدف استثارة “الآخر” وخضّه، أو لفت انتباه قطاعات واسعة من المتابعين على اختلاف انتماءاتهم . أما الحكم على فائدة هذه الفذلكات أو تأثير هذه الاشراقات، فسيبقى مختلفًا عليه؛ تمامًا كما حصل في هذه المرة، خاصة في عالم الحريات الالكترونية المنفلتة والمتوحشة؛ في حين تواجه فيه مكانة النائب العربي في الكنيست الاسرائيلي أزمة ثقة وجودية خطيرة، عبّر عنها، بشكل جزئي، الانخفاض الواضح في نسبة تصويت المواطنين العرب في الجولة الانتخابية الأخيرة.
سوف تتداعى التطورات السياسية العامة بتسارع مجنون، ولن يبقى من ذلك الحدث إلّا رذاذ مخلفات قد تُستحضر في المستقبل، إما على سبيل التفكّه، أو كأسلحة في مناكفات “الاخوة” الحزبية و”القبائلية؛ وستبقى كذلك الحقيقة الموجعة وهي ان هذه الكنيست تضم أكبر عدد من النواب العنصريين والفاشيين الذين بدأوا بتنفيذ ما أعلنوه قبل انتخابهم ازاء مكانة العرب، كل العرب، في الدولة، خاصة فيما يتعلق بمفهومهم ليهودية الدولة ولطبيعة الحكم فيها ولمرجعياته.
وقد برزت في هذا الاتجاه تغريدة رئيس حزب “الصهيونية المتدينة” النائب سموطريتش،التي وجهها، من على صفحته قبل يومين، للنائب أحمد الطيبي وهدده فيها قائلًا : ” أحمد هو مسلم حقيقي ويجب أن يعلم أن أرض اسرائيل هي ملك لشعب اسرائيل، ولن يبقى فيها، مع الوقت، أمثالك الذين لا يعترفون بذلك. ولسوف نهتم نحن بتنفيذ ذلك الأمر” .
لقد وردت تغريدة سموطريتش بعد خطاب النائب منصور عباس، الذي طنطنت له وسائل الاعلام العبرية، وبعد أن غازل من خلاله أحزاب اليمين وحاول استرضاءهم؛ وتزامنت كذلك مع هجمات عنصرية مشابهة أطلقها زميله النائب “ابن جبير”، ومع أصوات عنصرية عديدة أخرى، تشكل بمجموعها مؤشرات أولى وأكيدة على طبيعة وخطورة مواجهاتنا القريبة القادمة، خاصة اذا علمنا بأن هذه المواقف تحظى بوجود اجماع نيابي عريض وناجز، ومدعومة من قبل أكثرية يهودية عنصرية شعبية واضحة.
من المؤسف أن ينقسم المعقّبون العرب حول تقييم خطوة النواب الأربعة المذكورة، وأن يتواجهوا بسببها في معارك هامشية تشكل مشهدًا يذكرنا بحماقات بعض المجتمعات العقيمة التي سهّل تشظّيها، لا سيما حول أمور جانبية، مهمّة سيطرة القامع وتحكّمه في رقاب عامة المقموعين. لقد كان الأولى بالجميع أن يتنبهوا، بعد انتهاء المعركة الانتخابية، لما ينتظرنا، وأن يشاركوا في “مجهودهم الحربي” الحقيقي المطلوب في ساعة الصفر الحاضرة الآن الآن.
لن تكون مهمة مواجهة القوى اليمينية الفاشية في المعركة القادمة محصورة في الأحزاب والحركات العربية التي خاضت المعركة الانتخابية مؤمنةً بضرورة النضال البرلماني كواجب وكاستحقاق تتيحة مواطنتنا في الدولة ؛ فجميع المواطنين العرب مستهدفين وعليهم أن يستوعبوا كيف تغيّرت مفاهيم الأكثرية داخل المجتمع اليهودي نحو مسألة وجودنا كأقلية قومية تهدد استقرار دولتهم ومستقبلها؛ وكيف ترى الأكثرية، التي يمثلها سموطريتش وأشكاله اليوم، سبل مواجهة هذا الخطر المتخيّل؛ وما هي الأدوات، القانونية وغيرها، التي أبتدعوها والتي ستجنّدها مؤسسات الدولة في سبيل تأمين نصرها في المعركة الحاسمة القادمة؟
سوف يخطيء من سيستخفّ بما كتبه سموطريتش في تغريدته المذكورة؛ فهو وما يمثله لم يعودوا مجرّد مهلوسين سائبين كقطعان من مخلوقات خرافية هائجة على سفوح تلك الهضاب البعيدة، بل أصبحوا ساسة النظام؛ وسرعان ما ستتحول أفكارهم قريبا الى برامج عمل حقيقية، سنكون نحن، المواطنين العرب، عناوينها المباشرة والأكيدة.
يجب أن نعود فورًا إلى قضيتنا المركزية والاجابة على سؤالها المفتاح وهو: ما العمل؟
قد لا تملك الأحزاب والحركات التي تخوض الانتخابات سبلًا كافية وكفيلة لمواجهة المخطط الذي تهدد بتنفيذه أحزاب اليمين الفاشي وحلفاؤها، ولكن ما هي الحلول الواضحة والمخططات العملية التي يملكها بالمقابل من قد قاطعوا الانتخابات؟ فالاعتراض وحده على خيارات واجتهادات تلك الأحزاب المشاركة في “اللعبة الديمقراطية” وتسفيه نشاطها، لا يكفي ولن يفيدنا ولن يوصلنا إلى بر النجاة.
قد تنعكس ملامح الانقسام الأساسي القائم داخل المعسكرات العربية السياسية الأساسية على ظاهرة فقدان مجتمعاتنا لعناصر هويتنا الجامعة، خاصة عند اشتباكها مع مسألة المواطنة الاسرائيلية التي ترفض بعض الحركات السياسية الاسلامية والقومية التعامل معها بشكل مبدئي؛ أو، على العكس، يقبلها الآخرون لكنهم يختلفون حول كيفية ممارستها وتصريفها اثناء التعامل، كأفراد وكمجموع، مع مؤسسات الدولة.
وعلى سبيل المثال، ظهر هذا الخلاف مؤخرًا بشكل واضح داخل شقي الحركة الاسلامية، وهي بدون شك من أهم الأجسام السياسية التي تؤثر على هندسة هوية مجتمعاتنا وعلى سلوكيات أفراده وقيمهم المعيشية. فعندما استهل الدكتور منصور عباس، زعيم الحركة الاسلامية وممثلها المنتخب في الكنيست، خطابه الموجه الى المجتمع اليهودي بالآية رقم 13 من سورة الحجرات وطمأنهم بـ “يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا”، رد عليه الشيخ كمال خطيب، زعيم في الشق الشمالي للحركة الاسلامية التي تدعو الى مقاطعة انتخابات الكنيست، وهاجمه مستشهدًا بعدة آيات مناقضة، لم يحصرها بموقف القرآن من اليهود بل جمع معهم النصارى أيضًا مستعينًا بالآية رقم 120 من سورة البقرة متسائلًا : ” أليس في قرآن منصور عباس الذي في صدره قول الله تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم “.
هذا ليس مجرد خلاف عقائدي بسيط بين الشقّين الاسلاميين حول مفهوم المواطنة وعلاقة المسلمين مع سائر المواطنين والدولة، بل هو تعبير عن توجّهين اسلاميين مختلفين حول فهمهما لمسألتي الهوية والمواطنة؛ وهو ما يخلق واقعًا ملتبسًا يؤثّر بشكل سلبي على وحدة مجتمعنا، وعلى مواقف المواطنين المسلمين المحافظين إزاء “الآخر” ، ويؤدي، في نفس الوقت، إلى ضياع بوصلتهم وفقدانهم للثقة في نجاعة العمل السياسي، ودخولهم في حالة من السبات الاجتماعي؛ أو الى لجوئهم لحالات من الفردانية والشخصانية وما تتيحانه من “خيرات ” متخيّلة في حمى الدولة اليهودية وتحت سقف مؤسساتها، أو ما تكفله القبائلية والحمائلية البغيضتين.
إنه مجرد مثال على أحد المفاعيل المسؤولة عما آلت إليه أحوال المواطنين العرب وعن انتشار حالات الانتماء السائل والهش؛ فإن كانت طريق منصور عباس وحركته الاسلامية الجنوبية ستوصلنا، كما نجزم نحن أيضًا، إلى حضن اليمين الصهيوني المتوحش، فهل يكشف لنا قادة الحركة الاسلامية الشماليه عن مخططات مشروعهم الاسلامي النضالية الميدانية وبرامجهم العملية المعدّة لمواجهة مخططات اليمين الفاشي المعلنة، خاصة وانهم يؤكدون لنا أن اليهود والنصارى لن يرضوا عن المسلمين “حتى يتبعوا ملّتهم”…
هذا السؤال موجّه أيضًا الى جميع الأحزاب والحركات والمؤسسات ولجميعنا بدون استثناء؛ فبدون الاجابة عليه سنجد أنفسنا وسط معارك أكتوبر جديد وسنعود لعدّ اسماء شهدائنا الجدد وسنحتفي بذكراهم الخالدة بعد عام وعام وعام..