بقلم العميد: أحمد عيسى
المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي
يشهد العالم منذ بداية العام الجاري تحولات في التحالفات والتموضعات مختلفة ومتناقضة عن ومع تلك التي سادت في السنوات الأربع الماضية، وذلك نتيجة لرحيل الرئيس دونالد ترامب الذي تبني خلال فترة رئاسته مقاربة للنظام العالمي تقوم على شعار (أمريكا أولاً)، وحلول الرئيس جو بايدن مكانه محمولاً على مقاربة تقوم على مبدأ (عودة أمريكا) لقيادة النظام العالمي.
وتأسيساً على ذلك سارعت وحدات النظام الدولي، لا سيما الدول الصغيرة والكبيرة، القوية والضعيفة، العظمى والعادية، الديمقراطية وغير الديمقراطية، المتحالفة مع واشنطن والمنافسة لها لتغيير إستراتيجياتها وتموضعاتها الإقليمية والدولية، سواء بالتوافق أم التعارض، وفق التحولات الجديدة، وذلك لتأمين مكانتها وحماية مصالحها في النظام العالمي الذي يسعى بايدن لبنائه، لا سيما وأن الولايات المتحدة الأمريكية وفقاً لبيانات المؤسسات الدولية المالية والعسكرية، لا زالت هي القوة الأعظم في العالم عسكرياً وسياسياً وإقتصاديا وتكنولوجياً، الأمر الذي يجعلها محور النظام العالمي لفترة طويلة قادمة.
وكعادته ولأسباب جيوسياسية لن تتطرق لها هذه المقالة، كان الشرق الأوسط الإقليم الأكثر تأثراً بهذه التحولات، لا سيما وأنه يشهد منذ أكثر من عقد حالة من اللا إستقرار نتيجة الصراعات والحروب التي أدت إلى إنهيار بعض من مكوناته ووحداته وحولت الأخرى لدول فاشلة، إلا أنه أي الشرق الأوسط يشهد منذ بداية العام الجاري تحولات متسارعة سيكون لها يقيناً أكبر الأثر على طبيعة التحالفات بين مكوناته سواء بين الدول أو بين هذه الأخيرة والمنظمات من خارج الدولة التي باتت تلعب دوراً مهماً في العلاقات الدولية والإقليمية، وكنتيجة، على شكل وطبيعة النظام الإقليمي الجديد الذي لم يقف على قدميه بعد.
وكان تخلي الرئيس بايدن عن خطة سلفه المعروفة بصفقة القرن وإعلانه التمسك بحل الدولتين، ثم الإنسحاب الأمريكي المذل في نهاية شهر آب/أغسطس الماضي من أفغانستان ثم إعلان واشنطن العزم على الإنسحاب كذلك من العراق وسوريا، وفي الأثناء عودة الحوار ما بين واشنطن وطهران بشأن العودة للإتفاق النووي الذي كان الرئيس السابق ترامب قد إنسحب منه من جانب واحد العام 2018، من ابرز هذه التحولات وأكثرها أثراً على شكل وطبيعة النظام الإقليمي المتوقع.
وفي السياق ذاته كان إنعقاد قمة بغداد في أواخر شهر آب الماضي، التي ضمت إلى جانب العراق، كل من مصر، وتركيا، وإيران، والسعودية، والأردن، وقطر، والكويت، والإمارات، وعُمان وفرنسا، ليس اقل أهمية من الإنسحاب الأمريكي من المنطقة، إذ كان هذا اللقاء إشارة لبدء قوى المنطقة تنسيق المواقف فيما بينها لتحقيق الإستقرار خاصة في منطقة الخليج.
وكان من اللافت بشأن هذا اللقاء انه فيما كشف عن حوار غير مباشر يجري لأول مرة بين إيران والسعودية، تشهد علاقات هذه الأخيرة مع الإمارات إختلافات علنية بارزة في المواقف توشك أن تنهي عقد من التحالف بين الطرفين كان له بالغ الأثر على ما جرى ويجري في اليمن وسوريا وليبيا وإلى حد ما فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ سيجعل الإمارات متورطة لوحدها في التطبيع مع إسرائيل.
وكان للصراع الفلسطيني الإسرائيلي نصيب من التحولات المتسارعة المرتبطة بما يجري من تحولات على الصعيدين الإقليمي والدولي، ومن هذه التحولات تصاعد الإعتداءات الإسرائيلية على الأرض والممتلكات والمقدسات في الضفة الغربية والقدس، مما أدى إلى نشوب معركة القدس التي توحدت فيها صواريخ غزة مع قبضايات يافا وحيفا والرملة واللد والسبع، ومع فرسان وفارسات الشيخ جراح وباب العامود وباحات المسجد الأقصى، ومع بواسل وباسلات مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، الأمر الذي جرح عميقاً أحد أهم الإستراتيجيات الإسرائيلية في صراعها مع الفلسطينيين التي تقوم على منع الوحدة بين مكوناتهم وتجمعاتهم الجغرافية.
ومن التحولات المهمة كذلك تمكن الأحزاب الإسرائيلية الصغيرة من إنهاء حقبة حكم نتنياهو الأطول في تاريخ إسرائيل وإستبداله بزعيم حزب يمينا نفتالي بينت الأكثر يمينية من سلفه، وزيارة هذا الأخير الأولى لواشنطن للقاء الرئيس بايدن، هذا اللقاء الذي لم يتضمن جدول أعماله وفق المعلن عنه اي إشارة للتسوية السياسية المتوقفة على المسار الفلسطيني الإسرائيلي منذ وقت طويل، إلا أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كان حاضراً ومهيمنا على اللقاء كما كتبنا في مقال سابق الأسبوع الماضي.
وقد جاء الإعلان عن لقاء وزير الدفاع الإسرائيلي جانتس مع الرئيس عباس في مقر المقاطعة في مدينة رام الله الأسبوع الماضي، ثم إنعقاد القمة الثلاثية في القاهرة في مطلع الشهر الجاري التي جمعت الرئيس عباس وكل من الرئيس السيسي والملك عبد الله الثاني، ثم الإعلان عن لقاء مرتقب سيعقد بين الرئيس السيسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بينت في شرم الشيخ قريباً، تأكيدات إضافية على صحة ما كتبناه الأسبوع الماضي عن هيمنة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على جدول أعمال لقاء بايدن بينت في واشنطن، وفي نفس الوقت تكشف هذه التحولات عن عودة القضية الفلسطينية لصدارة جدول أعمال بناء النظام الإقليمي الجديد الذي لم يقف على قدميه بعد وتتصارع القوى العظمى الدولية والإقليمية على حسم شكله وطبيعته الجديدة.
وهنا يبرز السؤال الرئيس لهذه المقالة هل تحمل هذه التحولات أي جديد سياسي للفلسطينيين في مسيرتهم التحررية نحو التحرر وإقامة الدولة المستقلة كما يريدها الكل الفلسطيني؟
للإجابة على هذا السؤال يدرك أصغر الفلسطينيين سناً سواء داخل الوطن أم خارجه أن الشعب الفلسطيني وعلى الرغم أنه الطرف الأضعف مقارنة بغيره من اللاعبين في المنطقة، إلا أنه بصموده قد أفشل مخططات تصفية القضية الفلسطينية ووضعها على الهامش كما كانت مقاصد صفقة القرن وما تبعها من تطبيع عربي إسرائيلي، كما يدرك أنه على الرغم مما تنطوي عليه هذه التحولات من فرص لن تكون الدولة التي يريدها في متناول اليد، وذلك لضعفه الذي يؤمن أن أسبابه تكمن في داخله، الأمر الذي يجعل من إسرائيل تتنكر لحقوقه المشروعة رغم ما هي عليه من ضعف وهوان.