القيم الاجتماعية والأدبية في رسائل بارود يافا غسان كنفاني وزهرة دمشق غادة السمان

22 نوفمبر 2018آخر تحديث :
القيم الاجتماعية والأدبية في رسائل بارود يافا غسان كنفاني وزهرة دمشق غادة السمان
القيم الاجتماعية والأدبية في رسائل بارود يافا غسان كنفاني وزهرة دمشق غادة السمان

كتب د. زياد بني شمسه أستاذ الأدب والنقد ، والباحثة إسراء عبيدالله من جامعة بيت  لحم .

كشف ربعي المدهون ل” جريدة الحياة ” سرا دفنيا خفياً:” هنا يرقد غسان، على شاهده كتبت غادة أعذب عبارات الحُب، فصارمحبوه يقرأون رسائل الحُب بعد تلاوة الفاتحة على روحه، هنا عاتبه كمال ناصر: “ألم أنصحكَ يا غسان؟! ألم أقُل لك بادر بنفسك وانشر رسائلها لك، وافشِ ما خبأته غادة في قلبها من أسرار؟!، يصمت الرجل في صمته الأبدي، يذهب السرّ عميقاً، والآن من يُسكّن صدر كاتبة لا ترغب في بوحٍ مُبكّر؟!”
لعل ما نشرتهَ غادة السمان من رسائل غسان كنفاني – في الحُب والهوى والغرام -تحمل تأثيراً اجتماعياً متضاربا، حيث يمكن النظر إليها من جانبين: المعارضة أو التأييد.
أما الجانب الأول المعارض؛ فكان من باب تساؤل كبير “أين لها الجرأة كي تنشر هكذا رسائل جميعها في الحب والغرام ؟ وهذا ما يرفضه المجتمع ويأنفه، عدا ذلك ماذا عن صورة المناضل الثائر التي انطبعت ورسخت في أذهانهم عن غسان؟ فهُم يرونَ أن هذه الرسائل المليئة بلوعة الحب والهزيمة قد تشوِّه صورته النضالية الثائرة وتضفي عليها نوعاً من الخصوصية والنبش في الخطوط الحمراء، ونوعا من الضعف والاستكانة، وتقدّمه مهزوماً وضعيفا، وهل يُعتبر الذل من الأدب؟!وفي الاتجاه المقابلفإن نشرَ رسائل غسان دون رسائلها يُعتبر نصف حقيقة وتضليلها؛ لأننا لم نرَ جواب بارود يافا العاشق على عليها، ولم نرَ الردود، وهذا باعتقادهم سلبياً، طالما أنها أعمالاً أدبية لا رسائل ذاتية فعليها أن تنشرالردودَ أيضاً.

أما من وجهة النظر المؤيِّدة؛ فتُعتبر رسائله مرآةَلغسان الإنسان فهو إنسانٌ أولاً قبل أن يكون مناضلاً ثائراً، وهو بحبِّه تبِع قلبَه ولا يشوِّه الحبُّ صورةَ النضال؛ لأنها تجربةٌ صادقة وهذا لا يتعارض مع كونهِ مثقفاً وثورياً وعاشقا في آن، عدا ذلك فهو يربط بين الحبين( حبه لغادة وحبه للوطن) وجهان لعملة واحدة في كثير من الأحيان، ذات مرّة قال:” وأحسُّكِ مثلما أحسّ فلسطين: ضياعها كارثة بلا أي بديل، وحبي شيء في صُلب لحمي و دمي، وغيابها دموع تستحيل معها لعبة الاحتيال”.(السمّان،65)
وإذا نظرنا إليها بعدسة المؤيِّد فإنَّ نشرها لتلك الرسائليُمثل جرأةً محمودة متجاهلة بها الحرمان والمحظورات في ” الدستور العربي” فبها تكشف عن الجانب الإنساني الرقيق للمبدعين وتظهر أن ذاك الجسد الذي كان يحمل عقلاً مناضلاً ثورياً يحمل أيضاً قلباً رقيقاً مُحبّاً وحنوناً.
كماوكبُرت الأديبة غادة في أعين المؤيدين باعتبار هذه الرسائل نوعاً من الأمانة لديها إذ لبّت عهدهما ولو بعد حين،حيث عنوَنَت مقدمة كتابها بـ” وفاءٌ لعهدٍ قطعناه” وأعلنت عن ذلك أيضاً.

وفي اتجاه آخر في رأي المؤيدين، حيث يرونَ ذلك فخاً وقعت فيه غادة ببراءة إلا أن غسان من خلال هذه الرسائل عاد لنا بعد 20 عاماً من اغتياله. لذا فإن كان هناك خاسر فإنه غادة وحدها؛ فنشرها هذه الرسائل حقَّقت زهواً نرجسياً ولم ينقص ذلك من إبداع غسان شيئاً لأن العاشق حر وليس في العشق كبرياء. يقول غسان ” بوسعك أن تدخلي التاريخ، ورأسك إلى الأمام كالرمح”.
وفي قراءتنا للأبعاد الاجتماعية؛ فإننا نعد هذه الرسائل درسا أدبيا للحب يوازن درس النضال، فالحب لصيق إنساني للوطن ودونه تحول الوطن إلى جفاء، هي رسائل ربطت بين جمال الكلمات ووجه المحب المنغرس في وطنه، فمن حرر قلبه من الخوف حرر وطنه من الاستبعاد.
” لقد صرتِ عذابي، و كتب علي أن ألجأ مرتين إلى المنفى، هاربا أو مرغما على الفرار من أقرب الأشياء” .

أما البعد الأدبي فقد أخذ نواحٍ وجوانبَ مختلفة، الأول منها يتطرق للسارد والراوي فبما أن أحدهما حاضر “غادة” والآخر غائب وهو “غسان” وهو الحاضر الغائب، فإن هذه الرسائل كتب بلسان ساردها؛ لأن أحد الرواة غائب وهذا ما يتعارض مع أدب الرسائل، فمثلاً في إحدى الرسائل قال ” أمس وصلتني رسالتك التي يقول أولها غسان ويأتي توقيعك في آخرها وبين هذين القلبين السياميين فراغ ثقيل يملؤه البياض: أبغض الألوان إليّ .. ” ويقول أيضاً ” لقد كانت رسائلك رائعة وحادّة حمّلني عذابك ولؤمك ثقل المسؤولية والشعور بالذنب..” يبقى الغموض سيّد المكان لأننا لم نرَ رسالة غادة وما خطّته له! لذا اعتُبرت مفتقرة لأحد شروط الرسائل الأدبية .( السمّان،59)
إن هذا النوع من الرسائل ( الرسائل الأدبية المتبادلة بين كاتبين عاشقين) تُعتبر خطوةًنادرةً الحدوثلاسيما وأنهما فَذّيْن فأحدهما له باع وذراع في الأدب السياسي والأخرى يُشهد لها بالمسائل الأدبية ؛ الأمر الذي جعل هذه الرسائل موضع إثارة واهتمام على المستوى العام والخاص، ومحط أنظار النقاد والدارسين.
عدا عن أن هذه الرسائل صارت إرثا أدبيّا، يحق للجميع الاطلاع عليه وهذا الحق أكبر من حقها “أي غادة” في مواصلة الاحتفاظ به، لاسيما بعد عشرين عاماً من غياب جسد غسان، بالتالي فإن هذه الرسائل كان يجب لها أن تخرجَ للنور حقاً.
ومن الجانب الأدبيّ أيضاً إن نشر مثل هذه الرسائل يعتبر حجر أساس ونقطة بداية لانطلاق الجنس الأدبي الذي تفتقر إليه المكتبات العربية ألا وهو الرسائل الأدبية التي تتواجد بكثرة في اللغات الأجنبية، ولكن مكتباتنا تفتقده بوجهٍ عربيٍّ أصيل كيف وإن كانت هذه الرسائل ذات محتوى راقٍ وأصحابها أُدباء مرموقون!! الأمر الذي يفيد القارئ والمهتم بأدب الرسائل عامة وبأدبِ غسان كنفاني خاصة، حيث أنها كشفت عن الجانب العاطفي لديه، وذلك في اعترافاته الوادعة، مثلاً حين قال”لا تريدين الكتابة لي؟ معلش! ولكن انتبهي جيداً لما تفعلين: ذلك سيزيدني تعلُّقاً بكِ..” بالتالي فهي وثيقة أدبية وسيرة ذاتية في آنٍ.(السمّان،ص47)
تخدمُ رسائل غسان كنفاني لغادة أدبَ النقد للكشف عن شخصية الكاتب من خلال دراسة ما بقي له من دِمَن، وذلك باعتبارها خطوة جديدة فلم يُسبق نشر تجربة حُب بين كاتبين أديبيْن متحابين!
إضافة إلى ذلك؛فإن نشر غادة السمان لمثل هذه الرسائل، وبتلك الجرأة غير المعهودة لدى كُتابنا وأدبائنا يحثّ المؤسسة الثقافية والأدباء والكُتاب على التحلّي بالجرأة والصراحة، جرأة البوح والكشف دون توريةٍ أو مواربة أو طرقٍ ملتوية، والإصرار على إظهار الحقيقة كما هي بشفافيتها، لأن ذلك من شأنه أن يدفع الأدب والمجتمع إلى التقدم والتطور.

وفي نهاية المطاف؛ إن تتبُّعَ الأبعاد التيتعكسها رسائل غسان كنفاني وغادة ليس بالأمر الهيّن،فهي تعجّ بالأبعاد النفسية والدينية التي نطمح مناقشتها في مقالات أخرى، فإن رسائل غسان كنفاني تعكس توجيهات قلبه من البداية فكان حقيقياً شفافاً وجميلاً! حتى في ضعفه وتضحياته وغضبه وحنوّه، وكان عظيماً فذّاً حتى في آرائه المتناقضة، وكان سلِساً مرحاً ودوداً حتى في إصراره، فليس من العدل القول أن هذا الحب شوّه صورته النضالية فهو في كثيرٍ من الأحيان جعل حبّ غادة وحبّ الوطنِ وجهين لعملةٍ واحدة وانتهى به الحال أن قسم قلبه نصفين لأجلهما، فإذا كانت صورته النضالية تظهره قوياً، فإن الحُب شيمةُ الأقوياء أيضاً!
إنها رسائل إنسانية لم تعد تخص غسان وحده، ولم تعد تشبع نرجسية غادة السمان وحدها، بل أدب وجداني يعزف لحنه قلب أذابته الصبابة والجوى، وجسد أضعفته الأنواء والأدواء، والروح بينهما متعذبة لرؤية وطن أريجه الحب والوفاء.

 

  kips publishing world website.