بقلم: هاني المصري
أخيرًا، وافق الرئيس على عقد اجتماع للقيادة الفلسطينية بمشاركة الأمناء العامين للفصائل من دون تحديد موعد. وللتذكير، هناك مطالبة بعقد اجتماع الإطار القيادي المؤقت (لجنة تفعيل المنظمة)، الذي عقد مرة واحدة، المنصوص عليه في اتفاق القاهرة الموقّع في أيار 2011، والذي يتمتع بصلاحيات واسعة إلى حين عقد مجلس وطني توحيدي تنبثق عنه لجنة تنفيذية ومجلس مركزي بمشاركة حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
رفض الرئيس وحركة فتح تفعيل الإطار القيادي المؤقت لعدد من الأسباب: أولها، كونه يخلق قيادة جديدة للمنظمة، وأصلًا تمت الموافقة عليه بضغط مصري أيام صعود الإخوان المسلمين بعد ثورة 25 يناير وعشية تولي محمد مرسي سدة الرئاسة المصرية. وثانيها، كونه يؤدي إلى مشاركة حركتي حماس والجهاد في المنظمة من دون إنهاء انفصال غزة، وسيطرة “حماس” عليها، أي “حماس” ستكسب من دون إنهاء “انقلابها”.
وثالثها، هناك ثمن ستدفعه المنظمة، إسرائيليًا وأميركيًا، وربما عربيًا وأوروبيًا ودوليًا، لانضمام حركتي حماس والجهاد من دون موافقتهما على شروط اللجنة الرباعية الدولية.
وبعد ذلك استُبدلت المطالبة بعقد الإطار القيادي المؤقت بالدعوة إلى تشكيل وتفعيل اللجنة التحضيرية لعقد المجلس الوطني التوحيدي، التي عقدت اجتماعًا يتيمًا في كانون الثاني 2017، ولم تواصل، ثم انتقلت المطالبة إلى عقد اجتماع قيادي بمشاركة الأمناء العامين الفصائل، وها هو أخيرًا يمكن أن يرى النور.
إن التوقعات من هذا الاجتماع – إن عقد – منخفضة، انطلاقًا من الخبرة السابقة، حيث شهدنا سلسلة لا تنتهي من الاتفاقات والاجتماعات التي لم تطبق بنودها وقراراتها، أو طبقت جزئيًا، وسرعان ما انهارت، بدأت بإعلان القاهرة في آذار 2005، ومرورًا بوثيقة الأسرى في العام 2006، واتفاق مكة في العام 2007، واتفاق القاهرة الأول (اتفاق المصالحة) في العام 2011، وإعلان الدوحة في العام 2012، واتفاق الشاطئ في العام 2014، وليس انتهاء باتفاق القاهرة الثاني (اتفاق تمكين الحكومة أولًا) في العام 2017.
ويرجع إخفاق الجهود والمبادرات والاتفاقيات لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة إلى سببين:
السبب الأول: تعامل طرفي الانقسام مع الجهود والمبادرات ومسألة الوحدة برمتها بصورة تكتيكية، إذ كانت أولوية الرئيس و”فتح” استعادة غزة، والبقاء في قمرة القيادة للمنظمة والسلطة، على أن تكون “حماس” شريكًا صغيرًا، والرهان على عدم قدرة “حماس” على الاستمرار في السلطة، في ظل الحصار والعدوان والمقاطعة، بينما كانت أولوية “حماس” الحفاظ على سيطرتها الانفرادية على السلطة في غزة، وتحصيل مكاسب أخرى، مثل الانضمام إلى المنظمة، ودفع رواتب موظفيها، والحصول على الشرعية للانطلاق عربيًا ودوليًا، والرهان وانتظار حصول متغيرات إقليمية ودولية.
السبب الثاني: جاءت الجهود أو المبادرات كردة فعل على حدث أو عدوان أو مخطط تصفوي، وليس نتيجة اعتماد إستراتيجية مبادِرة فعّالة، مثلما شاهدنا في مرحلة صعود “الربيع العربي”، ثم ما بعد تولي دونالد ترامب سدة الرئاسة الأميركية، حيث كانت ردة الفعل تأتي دائمًا نمطية كما حصل مع نقل السفارة الأميركية، وسلسلة المواقف والإجراءات الأميركية المعادية للفلسطينيين، وكما حصل بعد إعلان رؤية ترامب والاستعداد لضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية على طريق ضمها بعد إعلان أنها جزء من “أرض إسرائيل”.
ففي كل مرة يعقد اجتماع قيادي بمشاركة مختلف الفصائل (حيث شاركت “حماس” في معظم الاجتماعات، ولم تشارك في واحد منها) كان الاجتماع يشهد خطابًا من الرئيس، وبيانًا، و”كفى الله المؤمنين شر القتال”.
لماذا هذه المرة عقد الاجتماع بمشاركة حركتي حماس والجهاد، والاتفاق على عقد اجتماع بمشاركة الأمناء العامين لمختلف الفصائل؟
الجواب: لأن اتفاق الإمارات تمّ بعد تدمير الأسس الحاكمة لعملية التسوية كليًا، وبعد قرار القيادة بوقف العمل بالاتفاقات الموقعة مع الاحتلال، إذ لم يعد الالتزام بشروط الرباعية عقدة تحول دون الوحدة الوطنية، كما أن الجديد في الاتفاق كونه ينذر بتغيير جوهري في قاعدة العلاقات والتحالفات التي استندت إليها المنظمة، خصوصًا فيما يمس علاقتها بالدول الخليجية، وتحرر بعضها من مبادرة السلام العربية، وقبول معادلة “السلام مقابل السلام”، إضافة إلى أنه على علاقة بالتنافس القطري الإماراتي، ونوع العلاقة التي تربط ما بين القيادتين الإماراتية والفلسطينية، ما بعد وعلى خلفية احتضان أبو ظبي لمحمد دحلان، والدور الذي يلعبه ويمكن أن يلعبه فلسطينيًا.
ليس من المتوقع خروج الاجتماع القادم إن حصل بما يجب ويحتاج إليه الفلسطينيون، لأن الأولويات والرهانات لا تزال قائمة وإن بشكل أقل من السابق، كما أن الاستعداد لمشاركة حقيقية في المنظمة والسلطة ضعيف للغاية. فالطرف الأول يراهن على نجاح المرشح الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وما يعنيه ذلك من موت رؤية ترامب، وعودة العلاقات والمساعدات الأميركية الفلسطينية، وبدء محاولات جديدة لاستئناف المفاوضات على أساس إدارة الصراع إن لم تتوفر فرصة لإنهائه.
وعلى هذا الطرف أن يضع بالحسبان أن خسارة ترامب غير محسومة، فيمكن أن ينجح ويمضي في تطبيق رؤيته، ولضمان نجاحه يمكن أن يعطي نتنياهو الضوء الأخضر للضم عشية الانتخابات أو غداتها، إذا فاز فيها أو خسر، فهناك حوالي ثلاثة أشهر ما بين إعلان النتائج وتنصيب الرئيس الجديد.
كما أن نتنياهو سيواصل الضم الزاحف الذي يقضي أكثر وأكثر على أي فرص لنجاح المفاوضات إن استؤنفت، ويحولها إلى غطاء لما يقوم به الاحتلال وللحل الإسرائيلي، ويمكن أن يبدأ نتنياهو بالضم القانوني، سواء فاز ترامب أم خسر، فقد سبق أن ضمت إسرائيل القدس من دون موافقة أميركية، وانتظرت طويلًا إلى أن حصلت عليها في الكونغرس في العام 1995، وإلى أن قرر ترامب تنفيذ هذا القرار في العام 2017.
أما الطرف الثاني فيسعى للتوصل إلى تهدئة طويلة مقابل رفع أو تخفيف الحصار، وهذا يصب في النتيجة، وبغض النظر عن النوايا، في تكريس الانقسام وتحويله إلى انفصال دائم، ويراهن على نهوض جماعة الإخوان المسلمين من كبوتها، خصوصًا إذا نجح بايدن على أمل إعادة السياسة الأميركية السابقة القائمة على الرهان على “الإسلام المعتدل” لمواجهة “الإسلام المتطرف”، مع أن هذا الرهان احتماله ضعيف في ظل هبوط الإخوان المسلمين والعداء الذي أظهره بايدن لإردوغان ونظامه.
بالإضافة إلى رهان هذا الطرف المتواصل على المحور التركي القطري، وبدرجة أقل على المحور الإيراني، مع العلم أن تركيا وإيران جارتان وتؤيدان الحقوق الفلسطينية، وإن بأشكال ولأسباب مختلفة، ولكن لكل منهما مشروع خاص، ومصالح وأولويات خاصة، وأطماع وأهداف لتوسيع دورهما الإقليمي.
سيكون الاجتماع القادم للقيادة الفلسطينية – في حال انعقاده – خطوة إلى الأمام إذا استند إلى مراجعة التجربة السابقة، ولوصول الإستراتيجيات السابقة إلى الفشل والطريق المسدود، واستخلاص الدروس والعبر، واعتبار الوحدة إستراتيجية وليست تكتيكًا ولا ردة فعل، على أن تقوم على أساس برنامج الحد الأدنى الوطني على أساس تطوير ما جاء في وثيقة الأسرى، والاتفاق على أسس الشراكة، واعتماد حل الرزمة الشاملة التي تقوم على معادلة لا غالب ولا مغلوب، وتشكيل لجنة تحضيرية لعقد مجلس وطني توحيدي بأسرع وقت، وإعادة النظر في السلطة وتغييرها لتصبح أداة من أدوات المنظمة والبرنامج الوطني، ونواة لتجسيد الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة، وتخليصها من أغلال التزامات أوسلو، وهذا لا يتحقق باستئناف المفاوضات من دون مرجعية ملزمة، وإنما بالنضال لتغيير موازين القوى حتى تكون قادرة على إجبار إسرائيل على إنهاء الاحتلال والتفاوض لتطبيق القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة التي تتضمن الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.
أما الانشغال بتحويل السلطة التي بلا سلطة إلى دولة بلا سيادة تحت الاحتلال، وإعلان مجلس تأسيسي، أو ضم الفصائل التي خارج المنظمة إلى اللجنة التنفيذية أو صيغة لجنة تنفيذية زائد من هم خارجها، أو اعتبار المجلس المركزي المختلف على تشكيله هو المخول بصلاحيات المجلس الوطني (بشكل مخالف للنظام الأساسي للمنظمة) وبقيادة المرحلة القادمة؛ فهذا مضيعة للوقت، ويصب الماء في طاحونة الانقسام.
إن عقد اجتماع قيادي يقود مرحلة التحضير من دون رؤية وخارطة طريق واضحة وملزمة سقفها الزمني قصير؛ سيعني إما أن القيادة ستبقى معلقة من دون دور حقيقي إلى إشعار آخر، ما يوجب توفير مستلزمات الوحدة، وخصوصًا إنهاء انفصال غزة وتشكيل حكومة وحدة وعقد المجلس الوطني التوحيدي بأسرع وقت ممكن، من خلال اختيار أعضائه بالانتخابات حيثما أمكن، والتوافق حينما يتعذر إجراء الانتخابات؛ أو ستنهار القيادة التي يمكن أن تأخذ شكل الاجتماع القيادي مثلما انهارت الاتفاقات السابقة.
من دون وحدة على أساس برنامج وطني وشراكة حقيقية وإرادة مستعدة لدفع الأثمان، لا تنفع ولا تكفي عقد اجتماعات ولا اتفاقات ولا مهرجانات بينما الانقسام مستمر ويتعمق. ولا يجب أن يبقى الشعب الفلسطيني وطلائعه ونخبه في حالة انتظار ليستجيب طرفا الانقسام لمتطلبات الوحدة، بل من المأمول أن يتحرك الشعب للضغط المتراكم لفرض إرادته عليهما.