منال القادري من جامعة تونس:
جائحة كورونا: تغيّرنا ثقافيًّا، وتؤسس لما بعدها!
بقلم: عزيز العصا
معهد القدس للدراسات والأبحاث/ جامعة القدس
Aziz.alassa@yahoo.com
http://alassaaziz.blogspot.com/
تدخل جائحة كورونا عامها الثاني، وقد اشتد أوارها وارتفع لهيبها ليشوي الوجوه من خلال الأنواع المتحورة من هذا الفايروس القاتل القادم إلى منطقتنا من بلدان مختلفة، كبريطانيا والبرازيل والصين وغيرها. وفي هذه الأجواء المكفهرّة بادرت “الجمعية التونسية لمقاومة التهميش الاجتماعي والاقتصادي” لدعوتي كضيف شرف عن فلسطين على مؤتمرها “متطوعون من أجل التنمية”، الذي انعقد خلال الفترة (5-7/آذار/2021).
وضمن السياق المشرق للمؤتمر، لفت نظري ورقة علميّة بعنوان: “جائحـــة كورونــا والمتغيّرات الاجتمــاعية”، قدمتها الباحثة منال القادري من الجامعة التونسية، جاءت تعبيرًا عن الهدف الاستراتيجي للمؤتمر؛ لما فيها من مفاهيم ورؤى وقراءة جادّة لمستقبل مجتمعنا العربي، فوعدتُها بإطلاع قارئ صحيفة القدس على ما ورد فيها، بعد عرض جوهر هذه الورقة، وموافقة الباحثة على ما ورد في هذا المقال:
تعدّ أزمة كورونا لحظة تاريخية حاسمة للإنسان والإنسانية جمعاء؛ لأن هذا الوباء يحضرنا للوعي بالعيوب العميقة التي تواجهها البشرية ككل. فبسبب الكورونا، وهو ظاهرة عابرة للمكان والزمان من حيث قدومه المباغت وانتشاره الخاطف، يعيش العالم مرحلة الخوف الكوني جرّاء انسحاب الدول من أداء دورها الاجتماعي في حماية شعوبها؛ إذ بانتشار هذه الجائحة القاتلة أغلقت الدول حدودها وانعزلت خوفا من الموت المتنقل، بحيث انقسمت الأمم إلى ثلاث فئات: 1) فئة تمتلك أدوات المعرفة فتعمل ليلا نهارا لاكتشاف العلاج. 2) فئة تنتظر مصيرها المحتوم. 3) وفئة تسعى على الميدان وراء مساعدة الأكثر تضررا ومد المساعدة له. لتصل الشعوب إلى مسلّمة أنّ العلم ليس أداة للترفيه بل وسيلة للنجاة.
كما تشكل هذه الأزمة علامة تحذير ودرس للبشرية، بحيث يجب البحث في الجذور التي تؤدي إلى الأزمات، التي ربّما تكون أسوأ مما نواجهه اليوم، والتحضير لكيفية التعامل معها ومنعها من التطور والانفجار. وفي الوقت الذي تزداد فيه المسافة الاجتماعية في إجراءات العزل المنزلي والحجر الصحّي والتباعد الاجتماعي بين ملايين البشر في البلد الواحد، أو بين مليارات الأشخاص عبر العالم، كيف يمكن الحديث عن خلق حركة اجتماعية نشطة لتواجه ما نعيشه اليوم أو ما هو مقبل وقريب جدّا من تهديدات وجوديّة؟
قد يبدو ذلك غير واقعي، وقد يتصور البعض أنّ عصر الإنترنت كفيل بتسهيل الأمور، بل قد يرى البعض أنّ العزلة الاجتماعية بدأت قبل كورونا بكثير وقد تسبب بها الاستخدام المفرط للهواتف الذكية المرتبطة بالانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وكل تكنولوجيا المعلومات لا سيما بين أوساط الشباب، لكنها قد تكون هي المخرج والوسيلة إن أحسنّا استخدامها لتنظيم الصفوف والتضامن الاجتماعي لخلق حركة اجتماعية واسعة النطاق، إذا تمكن الناس من استخدام هذه التقنيات استخداما جيدا في زمن العزل المنزلي والتباعد الاجتماعي للانضمام والاستقطاب والتعاون والتنسيق والتشاور المعتمد، على الرغم من العوائق التي سيتسبب بها توقف الإنترنت لفترة من الوقت، والآثار الناجمة عن ذلك.
لقد أحدثت أزمة الكورونا تغيّرات اجتماعية جذريّة في البنى والقيم الاجتماعية، التي تطال الفرد والأسرة والجماعة والمجتمع، كما تطال العالم بأسره، حدثت وستحدث في كل العالم بعد تخطّي أزمة الكورونا، منها:
1) استحوذت “الكورونا” فجأة على نمط حياتنا، بكل حيثياتها وتفاصيلها. فمع انطلاق الحجر الصحي العام عادت العائلة كنواة للمجتمع إلى كينونتها التي تلاشت جرّاء الجري اللاهث في مروج الحداثة، وعادت العائلة إلى بداياتها وصلابتها الأولى بعد أن كانت “سائلة” في العقود الأخيرة، كما عاد الفرد إلى ذاته بحثا وتقييما.
2) ولكن، مقابل ذلك، يُلاحظ ارتفاع منسوب القلق لدى الفرد، الناجم بالأساس عن الإحساس بالخوف من المجهول بمعنييه الاثنين؛ الوباء اللاّمرئي والمستقبل الغامض.
3) إنّ الاختلافات التي كانت سائدة بين الأفراد والمجموعات داخل المجتمع الواحد قبل الكورونا ستطرأ عليها تغيّرات عميقة، على اعتبار أن أنماط العلاقات الاجتماعيّة ستتغيّر هي الأخرى، يمكن الإشارة هنا إلى أن كل الأفراد في كل العالم استشعروا ذلك خلال أيام الحجر الصحّي العام، مما سيكسبنا أدوات اتصال جديدة في تعاملنا مع ذواتنا أو مع أفراد العائلة وحتى مع المجتمع بمختلف تقسيماته وملامحه.
4) لقد أثّرت الأزمة في المجتمع العربي بشكل كبير على العادات اليومية وغيّرتهم، وأعادت ترتيب أدوات تواصلهم وقرّبتهم لبعضهم البعض وهم تحت سقف واحد منذ سنوات عديدة. كما ازداد التكافل الاجتماعي القوي والتضامن الكبير بين أغلب الطبقات الاجتماعية في المجتمع، إلى جانب نشوء المبادرات السياسية والاقتصادية التي اتخذتها السلطات الحاكمة في كل بلد عربي على حدة.
5) تؤثّر الجائحة على المجتمع، في كليّته وفي تفاصيله، حيث تساهم في إعادة بناء العلاقات الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي بين الأفراد، وفي تغيير أنماط العيش. فمن بين البنى التواصلية الجديدة، هناك ظاهرة التباعد الاجتماعي، الذي يؤدي “ثقافة جديدة” وسلوك محدث بدأ يفرض نفسه على الأفراد والمجموعات في مختلف الدول. كما أنّ التعليم أصبح عن بُعد والعمل عن بعد وحتّى التسوق عن بعد، هي كلّها مصطلحات بدأت تغزو المعجم اليومي للمجتمعات وصارت ممارسة تسِم السلوك الفردي والجماعي وطريقة الحياة والعمل. بل إنّ دولا كثيرة أصبحت اليوم تستعدّ إلى تكريس مبدأ التواصل والإنتاج والعمل عن في المستقبل القريب والبعيد.
6) هذا إلى جانب ظهور عدّة ظواهر مجتمعية جديدة كإرتفاع نسب العنف المسلط على المرأة كما الرجل. فمع ظهور جائحة كورونا ازداد العنف داخل الأسرة بشكل عام، وكان للرجل نصيب من هذا العنف خاصة بعد تدهور الاقتصاد وتعطّل الكثيرين وبقائهم في المنزل، ممّا أدّى إلى تعرضهم للعنف اللفظي والنفسي، وهو ما أدّى بدوره لظهور العديد من المشاكل الاجتماعية والنفسية منها الطلاق وحالات الاكتئاب وهو نتيجة عدم تعوّد الأسرة على بقاء الرجل فترة طويلة داخل المنزل..
7) كما لوحظت بشكل دقيق في أغلب مجتمعاتنا مسألة تردي المستوى التعليمي للتلميذ أو الطالب.
8) أصبح المجتمع المدني، وهو نسيج من الجمعيات والتنظيمات، قطبًا ثالثًا –بين المجتمع والدولة- أكثر من ضروري؛ لأنّه يساعد بشكل جدّي على تحقيق التنمية الشاملة في مختلف تجلياتها. إذا كان مجتمعًا مدنيًّا قويًّا وناجعًا وقادرًا على التدخّل لصالح بناء ديمقراطية الدولة وإنهاء مجتمع الاستبداد والفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة التامة. وهو يحدّ من هيمنة الدولة والسّوق ويؤدي دورا تعديليّا من الناحيتين السياسيّة والاجتماعية وحتّى الاقتصاديّة. كما أن المجتمع المدني هو ضرورة هيكليّة لأنّ المجتمعات لا تكون متوازنة إلاّ بوجود مجتمع مدني متوازن وناجع. ولا يعني ذلك أن تكون مؤسسات المجتمع المدني بديلة للدولة إنما مكملتها. وبالتالي، فهو القوّة الكامنة وراء تذليل كل الصعوبات المجتمعية والأزمات الدوليّة.
ختامًا،
لقد كنّا في هذه الجولة السريعة والخاطفة في ورقة الباحثة القادري، وهي تسبر غور جائحة الكورونا، وما تركته من أثر بارز في حياة الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، وسيبقى هذا الأثر إلى مدى زمنيّ بعيد، إذ يتبيّن من الشرح أعلاه أن حياة الناس ما بعد الكورونا لا يمكن أن تكون كما كانت قبلها. الأمر الذي يدفعنا إلى مطالبة العلماء والباحثين المختصين في علم الاجتماع إلى أن يأخذوا دورهم في متابعة التغيرات الاجتماعية في مجتمعاتهم ومراقبتها، كما فعلت القادري، من أجل التخفيف من حدة الصدمات الناجمة عن التغيرات المفاجئة في المجتمع، والإسهام في صياغة فرد ملتقٍ مع ذاته متفهم لدوره تجاه نفسه وتجاه مجتمعه في التعامل مع هذه التغيرات والتقليل من آثارها السلبية.