بقلم: وليد نمور
في الزمن الذي تهمشت فيه القدس، وغابت فيه مسؤولية الاحتلال المفروضة عليه اتجاه حماية المقدسيين من ڤيروس كورونا المستجد، ومُنعت السلطة الفلسطينية بالتدخل بشأن القدس والمقدسيين، شباب وبنات القدس لم يقفوا مكتوفي الأيدي. وكما عهدنا المقدسيين في الأزمات سابقاً؛ لا ينتظرون أحد ليمنّ عليهم، نراهم اليوم يسارعون ومنذ اللحظات الأولى لإيجاد الحلول ليمنعوا انتشار وباء الكورونا في مجتمعهم وبين اهلهم. لقد قاموا متطوعين من شباب وبنات القدس بتجميع وتوحيد الجهد الأهلي في مدينة القدس واستطاعوا تشبيك أكثر من ٨٠ مؤسسة محلية من المؤسسات الأهلية الفلسطينية من مستشفيات، ومؤسسات اجتماعية، ونقابات، وفنادق، وشركات تنمية واستثمار، وغيرهم، لوضع برامج وقائية متعددة في كافة المجالات لمواجهة وباء كورونا المستجد. نعم، انه التجمّع المقدسيّ لمكافحة فيروس الكورونا او كوفيد-19، طليعة المجتمع وعموده الفقري في زمن الوباء هذا.
معظمنا في فلسطين وبالعالم اجمع نريد الأمور نفسها، فنحن نطلب ان تكون مجتمعاتنا خالية من الكورونا وان تكون أحياؤنا حيوية نظيفة تعمل بكفاءة وفاعلية عاليتين المستوى، لكن عندنا بالقدس يعتبر هذا من الترف والرفاهية حيث لا يمكننا فقط ان نتمنى ذلك بل يجب علينا ان نعمل بكد وجد ونكون قادرين على قهر التحدي وتذليل الصعوبات وتجاوز العقبات لحماية انفسنا ليس فقط من الكورونا ولكن ايضا من الأفات والاضرار الذي يخلفها الاحتلال.
يقوم التجمّع المقدسيّ بأعمالٍ مشرفةٍ للمقدسيين وإنه لمثال يضرب به للعالم أجمع. فرغم الإحباطات ولأوضاع الصعبة لدى الفلسطينيين، وبالأخص المقدسيين، محلياً وإقليمياً، ورغم جميع الضغوطات والانتقادات والعوائق، لقد نجح التجمّع المقدسيّ بأولى أولوياته، وهي إنجاح خطة الحجر الصحيّ بوقتٍ قصيرٍ جداً. فبيومٍ وليلةٍ رأيناهم يركبون خياماً بمستشفيات القدس الشرقية واستطاعوا مطابقة وتلبية احتياجات المستشفيات لما هو موجود لديهم. لقد قاموا بتجهيز وتقديم فنادق بالقدس بكافة الخدمات لاستقبال المقدسيين المعرضين للإصابة بالفيروس، أو من خالط شخص مصاب، أو الطلاب العائدين من الخارج، أو أي إنسان مقدسي قادم من الخارج، ولا يوجد لديهم مكان للحجر المنزليّ. كما وقدّموا فندقين لإقامة الطواقم الطبية. لقد جمعوا أطباء (بالتعاون مع نقابة الأطباء) ومختصين سواء لتقديم خدمات طبيّة ومتابعة المحجورين، أو لإعطاء إرشادات توعوية وصحيّة وتغذويّة ورياضيّة للكبار والصغار في السن. كما وأنهم يقدمون الدعم النفسي والاجتماعي والقانوني وينشرون إعلانات وڤيديوهات ولقاءات توعوية لأبناء الوطن، هدفها تسليط الضوء على التقيّد بالتعليمات الصادرة عن جهات رسميّة وصحيّة وتأكيد خطورة الوباء المتفشّي. بالإضافة إلى ذلك، لقد نظّموا الأمور بشكل مهني بحت يشمل تنظيم الأوقات وإعطاء التعليمات لأهالي المحجورين لتسليم احتياجات خاصة لأبناءهم، وعمل تطبيق للتواصل مع المواطنين وإشعارهم بكل جديد بما يتعلّق بڤيروس كورونا. والأهم من ذلك هو تنظيم استقبال للمحجورين عند قدومهم إلى الفندق استقبال الأبطال، وزفّهم زفّة العرس عند خروجهم من الحجر بعد ١٤ يوم وتقديم الورود لهم. لقد أعادوا بذلك الكرامة الإنسانية واحترام المقدسي الفلسطيني لذاته ولمجتمعه.
كم نفتخر بكم ايها الشباب الطموح القادر على الأخذ بزمام المبادرة حيث اصبحتم الرئة النقية التي نتنفس منها في زمن الكورونا هذا، وقمتم بإيجاد ادوار اجتماعية جديدة مؤكدين مرة اخرى على هوية المجتمع المقدسي العربي وذاتيته وابداعاته وفتحتم باب المشاركة الجماعية الفاعلة والايجابية وأظهرتم مصادر القوة والمتانة مستخدمين الموارد المجتمعية استخداما كاملا وصحيحا واثبتم بشكل لا يقبل الشك (رغم تشككي في البداية واعتذر عن ذلك) بأن البعد اللامؤسسي بالعمل وهو أسلوب قديم حديث، قد يكون أكثر فاعلية ونجاحاً من الأسلوب التقليدي الذي اعتدنا عليه دائما وفشلنا، لأن اسلوبكم قد تخطّى الهيكليات التي تأخذ وقتاً طويلاً في المداولات وفي عملية اتخاذ القرار، وقمتم بشكل ناجح ومميز يدعو الى الفخر والاعتزاز بتجنيد الاموال اللازمة من افراد الشعب الفلسطيني نفسه والأشخاص المهتمّين بالقدس وليس عبر الممولين الدوليين كما جرت عليه العادة في السابق. نعم، إن ذلك تحول كبير في الظواهر والعلاقات السائدة في مجتمعنا الفلسطيني بالقدس المحتلة، يعتمد الى حد كبير على تطبيق منهجيّة علميّة حديثة لتنمية المجتمع قائمة على الاعتماد على مقدرات المجتمع الذاتية Assets Based Community Development) –(ABCD التي تسعى لكشف مواقع القوة لدى المجتمعات المحلية واستخدامها كوسيلة لتحقيق التنمية المستدامة.
من الواضح ان التجمع المقدسي هو ظاهرة صحية لا يستهان بها في العمل المجتمعي بشتى جوانبه ويعكس عن حالة تغيير بنيوي وظهور هيكليات وادوار جديدة تختلف اختلافا نوعيا عن الأجسام والادوار القائمة والتي تستدعي بالضرورة الى حدوث تحول كبير في الظواهر وفي العلاقات السائدة في المجتمع. لقد أصبح التجمع من مرجعيات القدس، وأثبت أن للجيل الصغير فعاليّة كبيرة وإنتماء وتحمّل مسؤولية وتحفيز كبير. وأنا شخصيّاً كنت أستخف بهذه القدرات واعتقدت أن لا تجربة لديهم، ولكنهم أثبتوا أن تجربتهم في مستوى عالٍ جداً ومن دون الاعتماد على الغير. وكانوا حاضرين بعملهم البطولي لخدمة الناس. إننا بالفعل وبكل صراحة نتعلّم من تجربة المتطوعين الذين أرجعونا بعملهم إلى زمن الإنتفاضة الأولى، عندما ظهرت فيه روح التطوّع لدى الفلسطيني.
هنيئا لنا بهذا التجمع المقدسي حيث اننا فخورون جداً بما قام به الشباب بشكل طوعي ولما قدّموه من مسؤولية وطنية ودينية وأخلاقية على أكمل وجه. فلقد أثبتوا للعالم بأن شباب القدس موجودين بكل شموخ ومسؤولية عند الصعاب. وأن هناك رجالاً ونساءاً بالقدس تحمّلوا المسؤولية بشكلٍ مشرّف. والتجمّع المقدسيّ هو أكبر دليلٍ على ذلك. فمدينة القدس ليست وحيدة. هناك جنودٌ يدافعون عن أبناء وطنهم وحريصين على صحتهم وحياتهم. وهذا ما رأيناه حين اغلق المسجد الأقصى المبارك قبل حوالي ٣ أعوام وعندما فُقِد طفلٌ في منطقة دوار الضاحية في بيت حنينا وعندما واجه مستشفى المطّلع أزمة مالية لتقديم علاج لمرضى السرطان، فهل نحن على عتبة عهد جديد؟