بقلم: جواد بولس
أثار موقف أعضاء القائمة الموحدة، الذراع السياسي للحركة الاسلامية الجنوبية، في الكنيست، يوم الثلاثاء الفائت، موجة جديدة من التهجم عليهم وانتقادهم بلغة شديدة، حتى ذهب بعض المعقبين نحو وصف تصويت النائبين منصور عباس ووليد طه، لصالح “قانون منع لم شمل العائلات الفلسطينية”، بالخيانة.
لقد شرّع الكنيست الاسر ائيلي هذا القانون لأول مرة في سنة 2003، ووصفوه بخبث كقانون مؤقت جيء به، في حينه، لمواجهة “حالة أمنية طارئة” ولمدة عام واحد. ولأننا نعرف كيف تعاملت وما زالت تتعامل حكومات اسرائيل مع حقوق المواطنين الفلسطينيين، لا سيما ما يتعلق منها بالقضايا السكانية، أحسسنا، من وقتها، أن الذرائع التي استعملت لتسويغ الضرورة ولتسويق القانون، لم تكن سليمة ولا صادقة؛ فالأهداف من وراء تشريعه كانت كيدية وديموغرافية وتستهدف، في الواقع، حرمان الفلسطينيين، المواطنين داخل اسرائيل والساكنين في الاراضي الفلسطينية المحتلة، من ممارسة حقهم في الزواج من بعضهم البعض، وبناء عائلات فلسطينية جديدة؛ ومن ثم ممارسة حقهم القانوني والانساني في لم شمل عائلاتهم كي تعيش في أماكن سكناها الدائمة، داخل حدود ١٩٦٧.
وعلى الرغم من تحديد مدة سريان مفعول القانون، في الاصل، لعام واحد، إلا ان ابقاء امكانية تجديده واردة في حالة استمرار المعطيات والظروف التي استدعت الى سنّه، حوّلته، في الممارسة، إلى قانون دائم، كما رأينا عبر السنين وتصويت الكنيست على تمديده عامًا بعد عام.
يعرف النائب منصور عباس ومعه زملاؤه في القائمة الموحدة ومثلهم أيضًا أعضاء مجلس شورى حركتهم الاسلامية، أننا بصدد قانون شيطاني جائر كان قد أوقع، خلال السنوات الماضية، آلاف الضحايا الفلسطينية، التي حرمها حظره بلم الشمل، من العيش كعائلات طبيعية وبطمأنينة واستقرار وبسلام. ويكفي أن نقرأ ما كتبه عباس نفسه على صفحته في وصف بشاعة هذا القانون حتى نفهم لماذا انتقدوه بغضب، ولماذا كانت خطوته مستهجنة. فهو الذي كتب على صفحته قبل يومين انه: “يؤكّد بداية موقفنا المبدئي الرافض لهذا التشريع الظالم العنصري والمعتدي على حقوق أبناء شعبنا خاصة وعلى حقوق الانسان بشكل عام.. ” ، لكنه استطرد بعدها محاولًا تبرير تصويته والنائب وليد طه مع هذا القانون وتبرير امتناع النائبين، مازن غنايم وسعيد الخرومي، عن التصويت معه أو ضدّه.
لن أدخل في نقاشات مع مرافعات قياديي الحركة الاسلامية الجنوبية الدفاعية ومحاولاتهم شرح وتبرير مواقف الحركة غير الملتبسة، في هذه الحالة وفي غيرها ، بل الواضحة والمنسجمة مع نهجها منذ تأسيسها؛ وذلك لأنني على قناعة بانهم لن يتراجعوا عن برامجهم المعلنة خاصة اذا بقيت المعطيات السياسية الاسرائيلية الحالية على حالها؛ ولأنهم، هكذا افترض، يقدرون ويشعرون بأن اتباعهم لطريق السياسة النفعية/الذرائعية هو الخيار الأصوب الذي سيزيدهم قوة داخل مجتمعاتنا العربية التي تواجه حالة التباس واضحة، مواطنية وهويّاتيّة، كنت قد تطرقت الى معالمها ومخاطرها في الماضي.
لا أعرف كم من المتابعين والمحللين السياسيين قد تابعوا أو اهتموا بحيثيات خبر لقاء نواب القائمة الموحّدة مع طاقم رؤساء السلطات المحلية والبلديات العربية الذي جرى في ضيافة الدكتور سمير محاميد، في مبنى بلدية أم الفحم، في السادس والعشرين من الشهر المنصرم؛ اذ نشر الدكتور منصور عباس على صفحته خبرًا لافتًا حول اجتماع القائمة الموحدة مع رؤساء السلطات المحلية العرب والذي كان عنوانه، كما جاء في الخبر ،”نحو تكامل العمل البرلماني والحكم المحلي العربي”وأهدافه ” من أجل تعزيز التنسيق والتعاون والشراكة بين نواب القائمة العربية الموحّدة ورؤساء البلديات والمجالس العربية ولجنة الرؤساء ومنتدى السلطات البدوية في الشمال” . وقد شارك في الاجتماع، علاوة على النائبين منصور عباس ومازن غنايم، رئيس المكتب السياسي للقائمة الموحدة، ورؤساء البلديات من المدن: ام الفحم وكفر قاسم ورهط وباقة الغربية؛ وكذلك شارك رؤساء السلطات المحلية عن مجالس البطوف والمزرعة وكفر برا والبير المكسور والمجلس الاقليمي القصوم ورئيس منتدى السلطات المحلية العربية في الشمال، وشخصيات أخرى؛ حيث استعرض النائبان عباس وغنايم فرص وامكانيات التعاون والتنسيق المشترك وذلك على ضوء مشاركة القائمة الموحدة في الائتلاف الحكومي ، سواء في الاتفاق على بناء الخطط الخماسية الشاملة، والتي رصد لها مبالغ كبيرة في الائتلاف الحكومي، أو في التعاون الثنائي المباشر بين النواب ورؤساء البلديات والمجالس العربية. وكل ذلك حسب ما جاء في الخبر المذكور.
لا يمكننا غض النظر وعدم الانتباه الى هذه التطورات التي تدل على احتمالية تشكّل حالة اجتماعية سياسية جديدة داخل مجتمعاتنا، وذلك في ظل نشوء مفاهيم مشوهة حول المواطنة وفصلها عن ضرورة اقترانها بهويتنا القومية. لقد نوهنا، مع بداية ظهور أول علامات هذا التحوّل، وأشرنا الى خطورته البارزة، خاصة بعد أن ضعفت مكانة الأحزاب والحركات السياسية العربية التقليدية غير الدينية، وبعد أن اهتزت صورة قياداتها بين المواطنين، وبرزت، في مقابلها، انماط لقيادات استمد بعضها شرعياته بشعبوية متمردة ومتحدية، وبعضها باللجوء الى خطاب غيبي محافظ تمويهي، ومؤثر، خاصة بين فئات المواطنين غير المسيّسة والبسيطة والفقيرة.
سيفضل البعض عدم الالتفات الى هذه التداعيات “الهامشية” ونسيانها ، وسوف يتفّهها آخرون ويحيلونني الى حتمية تفتّتها على صخرة أبناء مجتمعنا الذين يمضون نحو نصرهم الحتمي وهم “منتصبو القامات” وبإرادات من فولاذ؛ وقد يعوّل بعض الواقفين، على الضفة الاخرى، على نهاية هذه الحكومة القريبة والتي ستنتهي معها مغامرة الحركة الاسلامية السياسية العابرة؛ وحينها ستعود الحراكات السياسية داخل المجتمع الاسرائيلي وبين الاحزاب الصهيونية إلى مساراتها العنصرية التقليدية الطبيعية، حين لن تجد الحركة الاسلامية أو شبيهاتها مكانًا ولا حتى على مقاعد البدلاء ، ولن تنعم بشرعية حتى لو كانت عرجاء أو عاقر ، كما أوهمتنا وتوهمت.
ولكن على الرغم من جميع هذه الفرضيات أو القناعات أو التمنيات، فأنا، على نقيضها تمامًا، أومن بان خطاب الحركة الاسلامية الجنوبية، كما يردده ويشرحه منصور عباس وسائر قادتها، قد ذاع بين المواطنين العاديين وقد خلق لسائر الاحزاب والحركات السياسية تحديّات كبيرة، كما وانه وضع أمام مؤسسات المجتمع المدني مهامًا ثقيلة وصعبة. فالتزام الحركة بالعمل السياسي، في واقعنا المشوه، وفق منهج “النفعية المطلق” ، من جهة واحدة ، وتمسكها بالعمل من أجل بناء “مجتمع محافظ”، من جهة ثانية، سيفضي حتمًا الى فرضها وقائع تتماشى مع مبادئها وتتعارض مع ما تؤمن به الأحزاب السياسية الضعيفة والمؤسسات المدنية والحقوقية التي تنشط من أجل الدفاع عن الحريات الاساسية وعن قيم اجتماعية وسلوكيات غير “محافظة”، وفق قاموس حركات الاسلام السياسي.
أكتب ذلك واعرف أن البعض سيدّعي انني ابني فرضيتي من فراغ، أو انني قد اهملت دور الحراكات الشعبية والشبابية وتأثيرها المضاد للحركات الاسلامية ولنهج الاندماج المنقوص والمجاني الذي نلحظ تناميه داخل مجتمعاتنا، لكنني رغم اعترافي بأهمية هذه الحراكات، والتي سأعود اليها مستقبلًا، ما زلت أرى تعاظم دور الحركة الاسلامية وتأثير المفاعيل التي تعمل على نشر نظام الانتفاعات/ الامتيازات الاسرائيلي.
لا يستطيع احد التكهن بما سيحصل في الايام القادمة ، لكنني على قناعة بان دور هذين العاملين لن ينحسر أو لن يحجّم، الا اذا قامت داخل مجتمعاتنا قوى سياسية جديدة قادرة على لم شملنا و على مواجهة المنزلق الخطر وكسب ثقة الجماهير العريضة وتأيدها.
وللتنويه ساعود لما اختتم فيه الدكتور منصور عباس خبره عن ذلك الاجتماع، فقال: “واتفق الطرفان على الاستمرار في بلورة رؤية مشتركة لاحتياجات المجتمع العربي ووضع سلم اولويات للقضايا التي يجب التقدم في علاجها في الخطط الخماسية القادمة، ليكون الموقف موحدًا وقويًا ومتماسكًا أمام الوزارات والحكومة”.
هكذا اذن! تداولوا وتحدثوا عن رؤى مشتركة في ظل مواطنة يرونها كاملة، ونحن نعتبرها، بحق، عرجاء منقوصة، خاصة اذا لاحظنا ان هويتنا الفلسطينية، التي كبرنا في ظلها، كانت غائبة عن أجندة النائب منصور وزملائه هناك.