يدخل العدوان الإسرائيلي المتواصل على مدينة جنين ومخيمها شمال الضفة الغربية يومه الرابع عشر، مخلفا مشاهد مفزعة من الخراب والدمار، وأكبر حركة نزوح يشهدها المخيم منذ معركة نيسان عام 2002.
بعد ظهر أمس الأحد، نفذ جيش الاحتلال أكبر عملية نسف لمربعات سكنية منذ عام 2002 في الضفة الغربية، امتدت على طول الأطراف الشرقية للمخيم، وشملت 20 منزلًا، حيث شوهدت سحب دخان كثيفة تغطي سماء المخيم.
عند الساعة الثالثة وخمس عشرة دقيقة من عصر الأحد، بدأت سلسلة من التفجيرات المتتالية تهز أرجاء المدينة والقرى والبلدات المجاورة، والتي تبعد قرابة 20 كيلومترًا، وفق روايات الأهالي، بعد أن نسف الاحتلال منازل المواطنين في المخيم.
وأمضى جيش الاحتلال ساعات في تفخيخ المباني عبر مدّ أسلاك في المربعات السكنية، فيما سبق عملية التفجير إعلانٌ لجيش الاحتلال يحمل تحذيرًا للمستوطنين في الأغوار الشمالية من إمكانية دوي انفجارات في منطقة العمليات العسكرية في مدينة جنين.
على شرفة منزل عائلة زوجته، الذي نزح إليه برفقة عائلته في حي خروبة، وقف المواطن خالد منصور (41 عامًا) يرقب لحظة التفجير الأكبر لمنازل المخيم، حاله كحال 15 ألف مواطن اضطروا للنزوح من المخيم منذ بداية العملية العسكرية، وفق إحصائيات رسمية.
يقول منصور “عشت النزوح عندما كان عمري 14 عامًا خلال اجتياح 2002، واليوم أبنائي عاشوا التجربة ذاتها، لكن هذه العملية أصعب وأخطر بكثير؛ فالاحتلال طردنا من منازلنا، وأحرقها، ودمر محتوياتها، والآن يفجّر أحياءً كاملة”.
وأضاف: “عام 2002، كان الاحتلال يعتقل من هم فوق 14 عامًا في المخيم ويحتجزهم في معسكر للجيش، بينما يبقي النساء والأطفال في المنازل، لكن في هذا الاجتياح، الأمر مختلف، فقد أجبر الاحتلال الجميع على إخلاء منازلهم”.
اضطر منصور وشقيقاه إلى النزوح عن منزلهم المكوّن من ثلاث طبقات في منطقة المخيم الجديد في اليوم الثاني للعملية العسكرية، بعدما أجبر جيش الاحتلال العائلات على ترك منازلها تحت إجراءات عسكرية معقدة، استخدم فيها الاحتلال وسائل تكنولوجية حديثة وطائرات درون لاعتقال كل من يشتبه بمقاومته الاحتلال.
وأشار منصور إلى أنه اضطر للجوء إلى منزل عائلة زوجته في حي خروبة، بينما لجأ شقيقاه ووالداه إلى منازل عائلات زوجاتهم وأقربائهم في حيي الهدف والهاشمية، وأن العائلة لم تجتمع منذ خروجهم في اليوم الثاني للعملية العسكرية.
وتابع: “تجهزنا لمثل هذا العدوان وللاجتياح الطويل للمخيم، فقمنا بتخزين المزيد من التموين والغذاء والدقيق، لكننا خرجنا بملابسنا فقط بعدما أجبرنا الاحتلال على سلوك ممرات محددة سيرًا على الأقدام”.
وأضاف: “جيش الاحتلال أبلغ النازحين بعدم العودة إلى المخيم إلا بانتهاء العملية العسكرية، وأخبر الجنود النازحين أنهم سيغيرون معالم المخيم، وأننا سنفاجأ عند العودة إليه، وهذا التفجير كان لتحقيق تلك الغاية”.
وأدت العملية العسكرية الإسرائيلية، التي أسمتها قوات الاحتلال “السور الحديدي”، حتى الآن، إلى استشهاد 25 فلسطينيًا، وإصابة واعتقال العشرات، إضافة إلى نسف عشرات المنازل، وسط نزوح أكثر من 15 ألف مواطن، في مشاهد تتطابق مع جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي خلال حربه المستمرة منذ 15 شهرًا على قطاع غزة، وفق مراقبين.
يقول رئيس بلدية جنين، محمد جرار، لـ”وفا”، إن العملية العسكرية أدت إلى نزوح 15 ألف نسمة من سكان المخيم، 6 آلاف منهم داخل المدينة، و4070 في بلدة برقين، فيما توزع البقية على 39 هيئة محلية في القرى والبلدات المحيطة.
وفيما يتعلق بالبنية التحتية، أوضح جرار أن الاحتلال دمّر شبكات المياه بشكل كبير، خاصة الخطوط الناقلة، كما دمر أربعة كيلومترات من الطرق بشكل كامل، إضافة إلى تدمير شبكات الصرف الصحي وخطوطها الناقلة.
وفي ظل منع الاحتلال طواقم البلدية والدفاع المدني والهلال الأحمر والمؤسسات الإغاثية من دخول المخيم منذ 14 يومًا، تُنفَّذ عمليات تدمير ممنهجة للمنازل والمحال والمصالح التجارية، حيث دُمِّر أكثر من 100 منزل بالكامل، بينما لا توجد إحصائية دقيقة حول أعداد المنازل التي تعرضت لتدمير جزئي أو للحرق.
وأشار جرار إلى أنه، وفق إحصائيات “الأونروا”، بقيت 70 عائلة داخل المخيم لم تتمكن من الخروج، ولا يوجد أي تواصل معها.
وفي مدينة جنين، أوضح جرار أن 35-40% من الأحياء لا تزال محرومة من المياه نتيجة عمليات التدمير، حيث خرج أهم بئر للمياه، “السعادة”، عن الخدمة منذ اليوم الأول لعملية الاقتحام، مما أدى إلى انقطاع المياه عن أحياء “جبل أبو ضهير، خلة الصوحة، الهدف، واد برقين، جزء من حي الجابريات، الزهراء، البساتين، والمحطة”.
أما عن واقع القطاع الصحي، فقد أكد رئيس البلدية أن الاحتلال قطع شبكات المياه عن أربعة مستشفيات من أصل خمسة في المدينة، وهي: “مستشفى خليل سليمان (الحكومي)، ابن سينا، الأمل، الشفاء”. وتمكنت الطواقم أمس من إعادة المياه للمستشفى الحكومي بعد 12 يومًا من الانقطاع، فيما لا تزال المياه مقطوعة عن المستشفيات الثلاثة الأخرى، كما قطع الاحتلال الطرق المؤدية إليها بالتجريف والحواجز العسكرية.
وفيما يتعلق بالجهود الإغاثية، شدد جرار على أنها ليست بالمستوى المطلوب، وأن حجم المساعدات أقل بكثير مما ينبغي، ولا يرقى إلى حجم الكارثة، مشيرًا إلى أن البلدية وجهت نداءات استغاثة للمجتمع المحلي والبلديات والهيئات المحلية الفلسطينية والمؤسسات الدولية لمد يد العون.
وقال: “15 ألف نازح بحاجة إلى كل شيء، خاصة أنهم خرجوا من منازلهم بملابسهم فقط، والقطاع الصحي في المدينة يعاني نقصًا حادًا في الأدوية، ونطالب بتوفير الإمكانيات بشكل عاجل وسريع”.
في جمعية دار الكفيف بحي السويطات، التي كانت ملجأ لـ22 عائلة من النازحين، تحدث رئيس الجمعية، ياسين أبو سرور، لـ”وفا”، قائلًا إن الجمعية استقبلت في اليوم الأول من الاقتحام 25 نازحًا، وارتفع العدد إلى 85 نازحًا أجبرهم الاحتلال على مغادرة منازلهم في مخيم جنين خلال الأيام الأولى للاقتحام.
وأضاف: “في كل عملية اقتحام للمخيم منذ عام 2002 حتى الآن، نستقبل نازحين، لكن هذه المرة هي الأصعب، لدينا 85 فردًا، بينهم 26 طفلًا تتراوح أعمارهم بين 5 أشهر و12 عامًا، وهذه أعداد تفوق القدرة الاستيعابية، لذا خصصنا لكل عائلة غرفة، ونوفر الطعام والشراب بفضل تبرعات أهل الخير”.
يذكر أن مخيم جنين أُقيم خلال شتاء عام 1950 القاسي، بعد نقل موقعه من “مخيم جنزور”، الذي كان يبعد 6 كيلومترات جنوب شرق جنين، إلى موقعه الحالي الملاصق للمدينة.
ويقع المخيم بمحاذاة محطة القطار العثمانية سابقًا، ويضم مهجرين من 59 مدينة وقرية مدمرة في أقضية جنين والناصرة وحيفا، ويمتد على مساحة 374 دونمًا.