بينما تُدكّ مدينة الحرب بلا هوادة، وتُفرّغ من أهلها قسرا، ولا ينقطع فيها هدير المدافع ولا أزيز الطائرات، ظلّ تنورٌ صغير قبالة مستشفى الشفاء الطبي في مدينة غزة متوهجا كجمر عنيد من بين الركام والدخان. مطعم شعبي كان آخر ما تبقّى من ملامح الحياة في المدينة المحاصرة، باق كعلامة صمود إنساني في قلب معركة التفريغ، يطعم من تشبثوا بغزة ورفضوا مغادرتها، ويجعل من الخبز بيانا ضد الموت.
يقول صاحب المطعم حسين الحلو: “غزة أمنا، ولا أحد يترك أمه”، وهو يراقب زبائنه الذين يلتفون حول المكان بحثا عن لقمة في زمن الحصار، أو عن لحظة أمان عابرة وسط هذا الهرج والمرج. يبدو المطعم ملاذا لمن قرروا البقاء، سواء كانوا مرضى على أسِرة الشفاء، أو ممرضين وأطباء يقتنصون لحظة استراحة، أو صحفيين يلتقطون أنفاسهم بين جولة وأخرى، أو نازحين يجدون في هذه اللقمات شريانا يُبقيهم على قيد المقاومة.
محمد شاهين يقرر البقاء لأداء واجبه الصحفي والأخلاقي تجاه الباقين في المدينة، حيث يتلقّف مراسل قناة الجزيرة مباشر قطعتي خبز سريعا بعد أن حزم درعه الصحفية وارتدى خوذته، منطلقا في طريقه نحو الظهور المباشر. أرسل شاهين زوجته الحامل وأطفاله إلى جنوب القطاع طلبا للسلامة، حيث قرر أن يبقى في غزة، قرارٌ لم يرَ فيه تهوّرا بل “واجبا إنسانيا ودينيا ووطنيا”.
نحن لا نتلقى التعليمات من جيش الاحتلال، فواجبي أن أبقى بينهم وأنقل معاناتهم.