في الوقت الذي اعتُبر فيه تسليم حركة حماس رفات الجندي الإسرائيلي هدار غولدن، المفقود منذ حرب 2014 في غزة، بادرة حسن نية يمكن أن تفتح نافذة لتثبيت الهدوء، تراجعت الحكومة الإسرائيلية فجأة عن تفاهم رعته الولايات المتحدة ووسّطت فيه قطر ومصر، يقضي بالسماح لـ 130 مقاتلاً من حماس بمغادرة رفح نحو شمال القطاع تحت إشراف دولي.
هذا التراجع فاقم أجواء التوتر، وكشف مجدداً هشاشة التفاهمات التي تحكم العلاقة بين إسرائيل وحماس، كما وضع الإدارة الأميركية أمام اختبار سياسي ودبلوماسي صعب.
اتفاق هشّ وعودة إلى المراوحة
تؤكد مصادر دبلوماسية أن اتفاق رفح جاء ثمرة محادثات غير مباشرة استضافتها الدوحة والقاهرة، بمشاركة فاعلة من مبعوثي الرئيس الأميركي دونالد ترمب، جاريد كوشنر وستيف ويتكوف.
وكان الهدف من الاتفاق فتح الطريق أمام خطوات إنسانية جديدة تواكب وقف إطلاق النار القائم منذ الشهر الماضي، في وقت تسعى فيه واشنطن لتثبيت إنجاز سياسي في الملف الفلسطيني.
إلا أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية – مدعومة من وزراء اليمين في حكومة بنيامين نتنياهو – رفضت تنفيذ البند المتعلق بإجلاء مقاتلي حماس، بحجة أن ذلك قد يتيح للحركة إعادة تجميع قواتها في الشمال، وهو ما اعتبرته تهديداً أمنياً مباشراً.
وعليه، رفض جيش الاحتلال الإسرائيلي تأمين الممر الآمن، ما أدّى عملياً إلى تعطيل الاتفاق وتجميد ترتيباته.
ضغوط أميركية تواجه تصلباً إسرائيلياً
ويجد المبعوثان كوشنر وويتكوف نفسيهما الآن أمام تحدٍ دبلوماسي معقّد: فهما يعلمان أن نجاح جهود التهدئة مرهون بالتزام إسرائيل بتعهداتها، لكنهما يصطدمان برفض نتنياهو الذي يخشى ردّ فعل قاعدته اليمينية.
وتشير مصادر عربية مشاركة في المحادثات إلى أن الأميركيين حذروا نتنياهو من أن تراجعه “سيقوّض مصداقية واشنطن ويُظهرها كعاجزة عن التأثير في سياسات حليفها”.
لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بدا أكثر انشغالاً بمستقبله السياسي الداخلي من التزاماته الخارجية. فهو يدرك أن أي خطوة يُنظر إليها كتنازل لحماس قد تُستغل ضده سياسياً، بينما أي مواجهة مفتوحة مع إدارة ترمب قد تكلفه دعماً استراتيجياً حيوياً.
نتنياهو بين الداخل والخارج
ويرى محللون في تل أبيب أن نتنياهو يواجه معادلة سياسية مستحيلة: فإذا التزم بالاتفاق، سيُتهم بالضعف أمام “الإرهاب”، وإن رفضه سيتحمل مسؤولية إفشال جهود التهدئة الأميركية.
ويضيف أحد المحللين أن “القرار في إسرائيل لم يعد بيد القيادة السياسية وحدها، بل بات رهينة توازنات ائتلافية داخلية لا تتيح أي هامش للمناورة”.
حماس ترد: إسرائيل لا تفي بوعودها
في المقابل، قالت حماس في بيان رسمي إن تسليم رفات غولدن جاء “لاعتبارات إنسانية وبثقة في الوسطاء”، متهمة إسرائيل بأنها “نقضت الاتفاق وأظهرت مجدداً عدم احترامها لأي تفاهم”.
ويؤكد مراقبون أن حماس تعمدت اتخاذ خطوة إنسانية أولاً لتُظهر نفسها كطرف ملتزم ومسؤول أمام المجتمع الدولي، ولتضع إسرائيل في موقف الطرف الذي يتهرب من تنفيذ التفاهمات.
ويعتقد الخبراء أن حماس كانت تريد اختبار الوساطة الأميركية، لا كسب ثقة إسرائيل. والآن باتت واشنطن في موقع من يحتاج إلى إثبات نفوذه.
رهان أميركي على حافة الفشل
ويرى مراقبون في واشنطن أن الأزمة الجديدة تمثل اختباراً حقيقياً لقدرة الإدارة الأميركية على ضبط حليفتها الإسرائيلية.
فبعد أن سوّقت إدارة ترمب وقف إطلاق النار كإنجاز دبلوماسي، يهدد تراجع نتنياهو بإفراغ هذا الإنجاز من مضمونه.
ويقول مسؤول أميركي سابق إن “كوشنر وويتكوف اكتشفا أن حسن النية لا يكفي أمام واقع سياسي تحكمه اعتبارات الائتلاف اليميني في إسرائيل أكثر مما تحكمه التزامات الحلفاء”.
سباق مع الوقت
تسعى القاهرة والدوحة حالياً لإنقاذ الاتفاق عبر مقترحات جديدة تشمل ضمانات أمنية إضافية أو تعديل مسار الإجلاء، غير أن الوقت يضيق، إذ تحذر مصادر فلسطينية من أن فشل تنفيذ التفاهم سيؤدي إلى تعليق أي عمليات تبادل مستقبلية وربما إلى انهيار التهدئة.
وهكذا، تحوّلت بادرة حسن النية التي كان يُفترض أن تعزز الثقة إلى مرآة تعكس حدود النفوذ الأميركي في التعامل مع إسرائيل، وإلى اختبار جديد لما تبقى من قدرة واشنطن على إدارة الملف الفلسطيني الإسرائيلي بعد حرب غزة












