هل أنت مسيحي؟

12 مايو 2015آخر تحديث :
هل أنت مسيحي؟
هل أنت مسيحي؟

reputable online pharmacies uk. الياس خوري

«هل أنت مسيحي»، سألني. لا أدري كيف قفز هذا السؤال إلى ذهن الرجل الذي كان يجلس بين الجمهور في ندوة في معرض جنيف للكتاب. كانت الأستاذة الجامعية والمترجمة رانية سمارة تحاورني عن فلسطين، وعن هذه المرحلة الضبابية التي يمر بها المشرق العربي، حين وقف ذلك الرجل السويسري وسألني سؤاله الغريب.
وعندما أجبته أنني علماني، ولا أعترف بسؤاله كما أنني لا أريد الإجابة عليه، هزّ كتفيه إلى الأعلى وقال إنه يعرف الجواب لأن اسمي يدلّ على هويتي الدينية والطائفية.
اعتقدت ان الرجل يستخدم القاموس الكولونيالي التقليدي الذي ينظر إلينا بوصفنا طوائف وقبائل، فسألته مستفزا، وانت ما هو دينك؟
في العادة لا يجاوب الأوروبيون على هذا السؤال، لأنهم يعتبرون الدين شأناً خاصاً، لكن الرجل أجاب ببساطة انه كاثوليكي. وبعد نهاية الندوة جاءني الرجل وقال انه سألني عن ديني كي يفهم الجمهور أنني أدافع عن الحق الفلسطيني، رغم كوني مسيحياً لبنانياً، وأنه لم يقصد استفزازي على الإطلاق.
عبارة «رغم كوني…» استفزتني أكثر، ما هذا الكلام؟ وما معنى أن نُصنَف و/أو نُصنِف أنفسنا وفقا لهذا القاموس الديني/الطائفي.
الحق ليس على صاحب السؤال فقط، بل علينا نحن أيضاً، ماذا أقول وكيف أدافع عن حقي في أن أكون علمانيا ومواطنا في زمن حرف النون الذي صنعته داعش في الموصل، أو في زمن مجزرة الأيزيديين في سنجار أو في زمن براميل بشار التي تدمر وتقتل، أو في زمن زهران علوش؟
هذا الزمن الأرعن بكل ما فيه من مآسٍ ووحشية وجنون، يجب أن يزيدنا إصراراً على تأكيد القيم التي مات من أجلها رفاقنا واصدقاؤنا الذين سقطوا في مواجهة الاستبداد والاحتلال والطائفية.
يا ويلنا اذا تراجعنا أو أصابنا الوهن، يا ويلنا من عيون سمير قصير وعلي أبو طوق ومروان كيالي وحمزة الخطيب وباسل شحادة، يا ويلنا من آلام الروح وأوجاع الذاكرة.
غريب أمرنا وأمر بلادنا، نجد أنفسنا اليوم وقد حُشرنا في مربع الطائفية المخزي. والحق ليس على الرجل السويسري، بل علينا نحن، لأننا نرى كيف تندثر حكاياتنا تحت أقدام الطغاة والبغاة، ولا نجد لغة جديدة ندافع بها عن لغتنا في مواجهة الأصوليات المتصارعة.
يا ويلنا اذا نسينا أن فكرة المواطنة هي جزء من النضال من أجل العدالة الاجتماعية، وأن فلسطين لا تكون إلا بصفتها نقيضا للطائفية والعنصرية.
بعد نهاية الندوة قال الروائي المصري صنع الله ابراهيم إن السؤال استفزه هو أيضاً، وقال إننا يجب ان نرفض مجرد الكلام حول هذه المسألة التي توجه إهانة إلى عقولنا ووجودنا وتاريخنا. قلت له ان معه حق، لكن يبدو أن الرجل قال ما قاله بنية حسنة. ثم تكلمنا عن الرواية والشعر، وروى لي أن القصيدة في روايته «تلك الرائحة» وجدها بين أوراق شهدي عطية الشافعي، القائد الشيوعي الذي قتل تحت التعذيب في سجون المخابرات المصرية، وأنه ليس مؤلفها.
«لكنك لم تشر إلى ذلك في الرواية»، قلت.
«الجميع يعرفون»، أجابني.
صنع الله كان على حق، فحين نشر روايته، فهم رفاق شهدي أن القصيدة ليست من تأليف الروائي، بل هي جزء من أوراق القائد الشيوعي القتيل، لكننا اليوم، وبعد أربعة عقود على نشر الرواية، نسأل هل من يتذكّر؟
ومن شهدي أخذنا الكلام إلى هنري كورييل أحد مؤسسي الحركة الشيوعية المصرية الذي قضى اغتيالاً في باريس في 4 أيار/مايو 1978. كورييل طُرد من بلاده وعاش طوال حياته في المنفى. دفع الرجل ثمن انتمائه الطبقي والأخلاقي بحجة انه من أصول يهودية. لكنه، رغم كل شيء بقي أميناً لمبادئه ومخلصاً لقضيته ووطنه. في باريس لعب دوراً أساسياً في دعم الثورة الجزائرية المسلحة، ووهب منزله في القاهرة إلى جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، كما ساهم في النضال الفلسطيني، وفي نضالات الباسك. وقد بقي اغتياله سراً، لكن أغلب الظن أن المخابرات الفرنسية والاسرائيلية هي من قتله.
كنت أريد أن اسأل صديقي المصري عن موقع هنري كورييل في الذاكرة المصرية اليوم، لكنني لم أسأل لأنني خفت من الجواب. ففي زمن الحروب الأهلية التي تجتاح المشرق العربي، بلغتها الأصولية المتوحشة التي صارت قفا الاستبداد، لا مكان للذاكرة. انه زمن الماضي الأسطوري وليس زمن الذاكرة. زمن التعصب المغلق الذي يغتال التجارب الإنسانية، والكابوس الذي يقتل الحلم.
كابوس السؤال عن الهوية الطائفية أو الدينية، هو بداية نهاية الأسئلة كلها، فأنت لا تعّرف كإنسان، بل كجزء من مجتمع وهمي لا يتأسس إلا في المذبحة، ولا يصير حقيقيا الا على إيقاع القهر والموت.
وحين تنتهي الأسئلة ينتهي المعنى.
أردت أن أقول للرجل الذي سألني ذلك السؤال الأرعن إنني انتمي إلى الإنسان، وإن جميع الضحايا أهلي، وأن قضيتي الوحيدة لها اسمان مترابطان هما الحرية والعدالة.
لكنني لم أقل، أحسست بأن لغتي محاصرة بالخواء، وان الكلام صار عبئاً.
عدت إلى بيروت وأنا أشعر بأنني مُثقل بالخسارات، ولا أحتضن سوى الألم، لكنني أفضل أن أُنسى مثلما نُسي رفاقي الشهداء، على أن أكون جزءا من خراب ذاكرة هذه المرحلة.

الياس خوري