كان امبرتو ايكو يهوى قراءة الصحف صباحاً مع فنجان القهوة. فالنهار لديه لا يبدأ إلا عبر أخبار الصحف ولو أضحت بائتة بعد نشرات التلفزيون الليلية، أو مكررة و «ببغائية» كما عبّر مراراً. لكنّ الصحف تظل بطاقة عبور إلى الخارج، إلى العالم وقضاياه اليومية وإلى شؤون السياسة والاقتصاد أو السوق… تبنّى ايكو، كما أشار مرة أيضاً، مقولة هيغل الشهيرة «قراءة الصحف صلاة الإنسان الحديث»، على رغم اختلاف العصر الراهن عن عصر الفيلسوف الألماني الذي لم يعرف ثورة الميديا والمعلوماتية. ولم يثن انتقاد ايكو الصحافة وفضحه ألاعيبها و «مناوراتها» عن ولعه بها وإقباله عليها، قارئاً وكاتباً أو «معلقاً». وكثيراً ما جذبت مقالاته في مجلة «اسبرسو» الإيطالية القراء على اختلاف مشاربهم وأعمارهم، وعرفت رواجاً كبيراً نظراً إلى فرادتها الأسلوبية وطرافتها وجرأتها في اقتحام «مناطق» شبه محرمة في السياسة والإعلام والثقافة اليومية و «الكيتش» والخلاعة اللطيفة… ولعل هذا المفكر والناقد الطليعي الذي زاحم الروائيين في عقر دارهم، سعى عبر مقالاته، إلى التأريخ اليومي للحياة بوجوهها كافة ومدح بعض أساطيرها أو «ميتولوجياتها» وفق تعبير رولان بارت. كتب ايكو عن الفساد السياسي ورموزه، كتب عن التلاعب في السوق، عن التلفزيون والإعلانات والبرامج الشعبية والمسلسلات والممثلات، عن ثقافة الشارع والموضة والبورنوغرافيا… وكانت مقالاته تترجم سريعاً إلى لغات أخرى وتتناقلها صحف عالمية. وأذكر مقالة طريفة كتبها عن الهاتف الخليوي أو «الموبايل» ساخراً من هذه الألة التي تشغل أجيالاً وتجعل التنقل في الباصات والمترو مزعجاً جراء الرنين وارتفاع أصوات المتحدثين عبرها. وختم مقاله متسائلاً: هل يحتاج كل البشر إلى هذا الموبايل؟ وارتأى أنّ من يحتاج إليه شخصان: الطبيب واللاعب في البورصة.
كان امبرتو ايكو جمع قبل رحيله أخيراً، منتقيات من مقالاته الصحافية، لا سيما مقالات مجلة «اسبرسو»، ووزعها إلى أبواب لتكون جاهزة للنشر، لكنه لم تتسن له مشاهدتها في الكتاب الذي صدر قبل أيام. هذه المقالات كان يميل إليها كما لو كانت من أعماله الإبداعية. ولعلها تمثل الوجه الصحافي من وجوه صاحب «اسم الوردة»، المتعددة ولكن على غير اختلاف أو تناقض. فهو كان مولعاً بالصحافة وشغوفاً بأسرارها، ولم يكن يتردد بتاتاً في إجراء الحوارات الصحافية، وبعض حواراته وثائق مهمة يمكن الرجوع اليها واعتمادها مراجع لأعماله النقدية والروائية. وكم من آراء فريدة ومتفردة أدلى بها، جالساً أمام محاوريه. وقد يكون هذا الشغف هو ما دفعه لفضح المساوئ التي تعتري صحافة العصر وكشف الأكاذيب التي تروّج لها والفساد والتلاعب اللذين باتا من أدواتها وغاياتها.
ولعل روايته «العدد صفر» التي صدرت العام 2014، وهي آخر ما كتب من روايات، أصدق شهادة عن حال التردي الذي تتخبط فيه الصحافة، الإيطالية والعالمية، بعدما وضع رجال الأعمال يدهم عليها وجعلوها سلعة يوظفونها لمصالحهم المالية والسلطوية. وكان ايكو من أجرأ مَن فضح لعبة التواطؤ، بين الصحافيين ورجال الأعمال والسلطة، ولعبة تزوير الأخبار و «المعلومات» وتحريفها بغية الهيمنة على الرأي العام وتضليله. وحملت الرواية «العدد صفر» عنواناً، لأنها تدور حول صحيفة يزمع رجل أعمال كبير يسمى «الكوموندون» على إصدارها ولكن من غير أن تتخطى العدد صفر، وهو في عالم الصحافة يعني أن تظل الصحيفة وقفاً على الصدور التجريبي أو الوهمي والإيهامي. وهذا فعلاً ما سعى إليه رجل الأعمال الذي يمتلك شركة تحتكر وسائل إعلام عدة، سمعية- بصرية همها الترويج الإعلاني ونشر الفضائح والإتجار غير النزيه وتغطية فساد السلطة. يختار ايكو اسماً شائكاً للصحيفة وهو «الغد» ملمحاً إلى أن مستقبل الصحافة لن يكون سليماً بعد تجريد الصحافة من رسالتها وتفريغها من بعدها الأخلاقي وتسليعها.
لم تتخط الصحيفة «العدد صفر» لكن «الكومندان» يعهد إلى أحد «المتعاونين» مهمة وضع كتاب عن مشروع الجريدة، مؤدياً من خلاله دور «الكاتب الزنجي» وفق التعبير الفرنسي، الذي يمارس عبودية التزوير طمعاً بالمال. أما هدف صاحب الصحيفة المزعومة، فهو ترسيخ قدميه في عالم المال والسلطة، وأداء خدمة لرموز الفساد عبر ترويض الصحافيين وشرائهم كي يعملوا على تزوير الأخبار والوقائع، ومحاربة المعارضة ومواجهة الحركات النقابية والشعبية…
لا تخلو الرواية من التفاصيل الصحافية والتقنية التي بدا ايكو على إلمام تام بها وكأنه صاحب خبرة في المطبخ الإعلامي، وإلمامه هذا أضفى على روايته مواصفات واقعية مشبعة بالسخرية و «البارودي» أو المحاكاة الهازئة. وكم بدا ايكو مصيباً في هذه الرواية وحقيقياً، فهو تمكن من فضح أحوال الفساد والإتجار والتزوير والتشويه التي تتخبط الصحافة فيها والتي سيكون لها آثار سلبية على مستقبلها أو «غدها». viagra no prescription india.