لم تكن رصاصة عادية تلك التي انطلقت نحو عين ناجي العلي اليمنى في لندن يوم 22 تموز عام 1987، ولم تُعرف على وجه التحديد الجهة التي أمرت بإطلاق النار، إلا أن المؤكد هو وجود جهات عدة تملّكتها في ذاك الوقت رغبة جامحة بكسر قلم رسام الكاريكاتير الفلسطيني الناقد اللاذع.
فن الكاريكاتير الذي احترفه العلي في محاولة منه لتعرية سياسات أنظمة ودول وحركات، كان السبب في تغييبه عن عمر ناهز الخمسين عاما، غير أن هذا لم يكن ليثير أي غرابة لديه وهو الذي قال في إحدى المرات “يلي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت” لتتحقق نبوءته، ويقضي بجرم الفن باسم الوطن، وتتوقف رسوماته التي شهدت عليها جدران السجون الإسرائيلية والعربية والتي أفنى فيها سنوات عديدة من حياته.
من الشجرة الى عين الحلوة..
ناجي العلي المهاجر من قرية الشجرة الفلسطينية إلى مخيم عين الحلوة في لبنان، ولد عام 1937 وتعرّض للاعتقال في السجون الإسرائيلية لأول مرة وهو في سن الطفولة، لنشاطه المقاوم للاحتلال. وتوالت من بعدها الاعتقالات بحق العلي، فاعتقل أكثر من مرة في سجون لبنان عقب لجوئه وعائلته إليها.
وكان الأديب الفلسطيني غسان كنفاني، أول من نشر لوحة لناجي العلي عندما زار مخيم عين الحلوة وشاهد ثلاث رسومات له، نشر إحداها في العدد 88 من مجلة “الحرية” الصادر في 25 أيلول 1961، وكان الرسم عبارة عن خيمة تعلو قمتها يد تلوح.
ناجي العلي الذي بدأ العمل في سلك الصحافة والإعلام، عمل في عدة صحف عربية ودولية، وذاع صيته كفنان كاريكاتير، وأصبحت رسوماته مزعجة بشكل كبير للاحتلال الإسرائيلي الذي ما كان يتردد في إسكات الأصوات الفلسطينة المقاومة.
في عام 1963 سافر ناجي العلي إلى الكويت وعمل في عدة صحف ومجلات خلال الأعوام الـ 12 التي قضاها هناك، حتى عودته إلى لبنان، ومن ثم تنقله مرات عديدة بين البلدين، إلى أن استقر به المقام في لندن عام 1985، والتي مكث بها عامين حتى صبيحة الـ 22 من تموز 1987؛ حين أقدم شخص مجهول على إطلاق الرصاص من سلاح كاتم للصوت صوب العلي، ما أسفر عن استشهاده متأثرا بإصابته بعد نحو شهر.
وبحسب ما أسفرت عنه التحقيقات البريطانية، فإن منفذ عملية الاغتيال يدعى “بشار سمارة” وهو على ما يبدو الاسم الحركي لبشار الذي كان منتسبا إلى منظمة التحرير الفلسطينية، ولكنه كان موظفا لدى جهاز الاستخبارات الإسرائيلي “الموساد”.
وفي إطار التحقيقات في جريمة قتل رسام الكاريكاتيرالفلسطيني، طلبت الشرطة البريطانية من “الموساد” معلومات حول عملية الاغتيال، إلا أن تل أبيب رفضت ذلك، ما دفع السلطات البريطانية إلى إغلاق مكتب الاستخبارات الإسرائيلية في لندن.
لا نتيجة واضحة للاغتيال..
وفي حين لم تسفر التحقيقات البريطانية عن نتيجة واضحة فيما يتعلق بتحديد هوية الجهة التي نفذت الاغتيال، فإن عائلة العلي أكدت تلقيه تهديدات عديدة من أطراف عُرفت هويات بعضها وبقيت أخرى مجهولة، قبل أن يرحل عقب غيوبية استمرت خمسة أسابيع مخلفا وراءه إرثا فنيا يقدّر حجمه بأكثر من 15 ألف رسم كاريكاتيري.
ومن بين ما خلّفه ناجي العلي وحيدا؛ “حنظلة” الطفل ذو الأعوام العشرة من العمر، وهي شخصية ابتدعها ورافقته طوال مسيرته الفنية التي دامت نحو ثلاثين عاما. وُلد على صفحات جريدة “السياسة” الكويتية عام 1967 عقب النكسة وهزيمة الجيوش العربية، وأصبح الأيقونة التي تمثل الانهزام والضعف في الأنظمة العربية.
يشيح “حنظلة” بوجهه ويعقد يديه خلف ظهره وهو يتفرج على المشهد العربي والفلسطيني بالأخص؛ فتم تصويره على أنه الفلسطيني القوي العنيد، إلى جانب “فاطمة” وهي شخصية أخرى ابتدعها ناجي العلي لتعبّر عن المرأة الفلسطينية العنيدة التي لا تقبل المهادنة ولا تتنازل أبداً.
العامل الكادح …..
ويظهر واضحا في رسومات ناجي العلي، تكرار لشخصية العامل الكادح ممثلة برجل بشارب طويل وقدمين ويدين كبيرتين، كما سجّل الإسرائيلي صاحب الأنف الطويل ظهورا في رسوماته الكاريكاتيرية، جنبا إلى جنب مع الأنظمة العربية والقيادات الفلسطينية الممثلة بالرجل البدين في رسوماته.
بعد نحو ثلاثة عقود على اغتيال ناجي العلي الذي ارتقى بتاريخ 29 آب 1987 عقب خمسين عاماً ، قضى أكثر من نصفها في تجسيد انتهاج الأنظمة العربية للسياسات السلمية والاستسلام أمام الاحتلال الإسرائيلي، لا يزال حنظلة الطفل الفلسطيني صاحب العشرة أعوام كما هو، مشيحاً بوجهه لسياسات العرب، دائراً ظهره غير مهادن مع الاحتلال الإسرائيلي، مخلصاً للرسام الفلسطيني ناجي العلي. branded viagra mexico.