بقلم: مروان المعشر
وزير الخارجية الأردني الأسبق
تعتمد الإجابة عن هذا السؤال على عوامل عدة، لكنني أزعم أن عامل الزمن يشكل أحد العناصر الرئيسية في الإجابة عن هذا السؤال.
إن نظرة سريعة إلى استجابة دول كثيرة لمواجهة وباء كورونا تظهر أن طبيعة الأنظمة السياسية لهذه الدول لم تكن العامل الرئيسي الذي حدد نجاعة هذا التعامل، فدولة شمولية كالصين أثبتت قدرة تفوق بكثير تلك التي أظهرتها دولة ديمقراطية كإيطاليا في التعامل مع الأزمة. وقد أظهرت دراسة حديثة نشرتها مؤسسة «كارنيغي» أن عامل الثقة بالحكومة كان من أكبر العوامل التي حددت فاعلية الاستجابة، حيث إن نسبة ثقة الصينيين بحكومتهم من أعلى النسب في العالم رغم الطبيعة الشمولية لهذه الدولة.
وأثبت فيروس «كورونا» أن العولمة بشكلها الحالي عليها أن تتبدل، فالعولمة المبنية فقط على تبادل السلع هي نقطة ضعف أكثر الدول تقدماً، ولم يعد من المقبول مثلاً أن يكون مصدر معظم المستلزمات الصحية الأساسية من دولة وحيدة هي الصين في هذا المجال.
كما أن الأزمة أعادت الاعتبار لدور الدولة المركزي في بعض المجالات الأساسية كالصحة والأمن مثلاً، باعتبارها الأقوى والأقدر على إحداث التأثير اللازم لاحتواء الأزمة على المدى القصير. كما أثبت الناس استعداداً كبيراً لتقييد حرياتهم والتضحية بالنشاطات الاقتصادية على المدى القصير مقابل حماية أمنهم الصحي، ومن تلك الدول كوريا الجنوبية وسنغافورة والأردن.
لكن الإجابة عن سؤال يتعلق بقدرة الدول على مواجهة هذا الفيروس لا ينبغي أن تقتصر على المدى القصير، لأن آثار هذه الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، بل أيضاً والسياسية، ستمتد لسنوات إن لم نقل لعقود من الزمن. أزعم أن المعالجة طويلة المدى يجب أن تتضمن عناصر أخرى عدا الإجراءات الصحية والأمنية المتبعة حالياً. إذ إنه، إضافة إلى ضرورة وجود خطة اقتصادية متوسطة المدى لإعادة اقتصاديات الدول لوضع طبيعي، فإن عنصري ثقة الناس بحكوماتهم والتشاركية في وضع هذه الخطط هي التي ستحدد مدى قبول الناس بأي خطط، لا بد أن تتضمن بالضرورة تضحيات اقتصادية فوق تلك التي يتحملها المواطن العادي وبالأخص في المنطقة العربية. بمعنى آخر، لا يكمن التحدي الأكبر في وضع الخطط الاقتصادية للمستقبل، لكن في تجسير هوة الثقة بين المواطن والدولة، وإقناع المواطنين كافة بأنهم شركاء في بلورة الخطط التي ستحدد مستقبلهم. دون ذلك، قد يؤدي تنفيذ أي خطط يتم وضعها دون توافر عنصر التشاركية، الذي بدوره يساعد في تجسير فجوة الثقة، إلى تهديد السلم الأهلي بدلاً من الوصول إلى شاطئ الأمان.
وقد بات من الواضح أن التعامل مع هذه الأزمة يتطلب جهداً جماعياً شعبياً داخل الدولة الواحدة، معززاً بالإقناع بقدرة الدولة على قيادة جهد تشاركي، ليس فقط لمواجهة آثار الأزمة قصيرة الأمد، وإنما أيضاً لاحتواء آثارها السلبية بعيدة المدى على كل قطاعات الدولة.
كل ذلك يتطلب جهداً مستداماً يتعدى الحلول الأمنية التي تشكل ضرورة قصوى في المرحلة الحالية، لكنها لا تستطيع مواجهة كل آثار الأزمة على المديين المتوسط والبعيد. ولعل أزمة «كورونا» تشكل فرصة ذهبية للدول لتشكيل نظم حوكمة سياسية واقتصادية جديدة، لا تعتمد على الأمن فقط كحل وحيد لكل التحديات، وإنما على حلول تشاركية غير تقليدية لإعادة الرشاقة للأنظمة الحكومية وإشراك القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني في بلورة بيئة تنموية جديدة قادرة على إحداث النمو المطلوب بقدر قدرتها على مواجهة أي تحديات مستقبلية على شاكلة تحدي «كورونا».
ضمن هذا الإطار التشاركي، يمكن لأي خطة أن تتضمن العناصر التالية:
في المدى القصير:
أولاً: حماية الطبقة العاملة ومصادر دخلها وضمان استمرارية المؤسسات الداعمة للاقتصاد الوطني.
ثانياً: البدء تدريجياً بإعادة عجلة الإنتاج ضمن معايير صحية صارمة، لأن الأزمة ستطول ولن نستطيع فرض حظر شامل لمدة طويلة دون أن يؤثر ذلك وبقوة على الوضع المعيشي لعدد كبير من المواطنين.
ثالثاً: عدم الالتفات في المرحلة الحالية لمعدلات الديون، لأن معظم الدول ليست لديها القدرة المالية على ضخ حزم تحفيزية في السوق دون الاقتراض، الذي أصبح ضرورة اليوم بغض النظر عن التكاليف المستقبلية التي يمكن معالجتها لاحقاً.
رابعاً: العمل مع القطاع الخاص على إيجاد موارد مالية بديلة لمساعدة الأكثر تضرراً من هذه الأزمة وتعزيز التماسك الاجتماعي.
في المدى المتوسط:
يتوقع «صندوق النقد الدولي» أن يتعافى النظام الاقتصادي العالمي بحلول سنة 2021. وباعتبار أن معظم الدول العربية تفتقر إلى الموارد المالية الإضافية اللازمة لضخها في اقتصادياتها، من الضروري محاولة تحويل الأزمة إلى فرصة، وذلك عن طريق:
أولاً: إعادة جدولة الديون والاستفادة من حزم الإنقاذ التي تقدمها بعض المؤسسات الدولية.
ثانياً: العمل لشطب بعض الديون إن أمكن.
ثالثاً: إعادة النظر في بعض التزامات الدول التعاقدية التي تشكل التزامات مالية على خزينة الدولة من خلال مراجعة المعاهدات الدولية والاستفادة من أي بنود تمكن الدول من الانتهاء من تلك الالتزامات دون شروط جزائية.
رابعاً: إعادة النظر في النظام الضريبي وتشجيع الاستثمار في الصناعات المحلية.
خامساً: إدراك المجتمع أن إصلاح التعليم ضرورة للبقاء وليس ترفاً فكرياً أو نخبوياً أو مؤامرة خارجية، وهو غير موجه ضد المعتقدات أو الثقافة العربية، بل نحو اعتماد إطار فكري جديد عماده قبول التعددية الفكرية، والإدراك أن في الاختلاف قوة ومنعة ودفعاً باتجاه التجديد المستمر. فالإبداع والإنتاجية وفرص العمل لن تأتي بعد اليوم إلا من خلال قبول التعددية في الفكر ونمط الحياة، وتعليم ذلك للناشئة. أما الإصرار على أحادية الفكر والتصرف والأنظمة الأبوية، فهو عنوان الخمول والتقوقع في عالم متغير باستمرار. حان الوقت لوضع نظم تربوية جديدة لا تؤهل الجيل الجديد للعمل في القطاع الخاص فحسب، لكن للتعامل مع تحديات الحياة المستجدة في عالم أصبحت وتيرة التغيير فيه أسرع بكثير من قبل.
سادساً: العمل لترابط تجاري واقتصادي أكبر مع الدول العربية والعمل على غرار الاتحاد الأوروبي على زيادة التبادل التجاري ورفع القيود الجمركية بين الدول العربية وتبادل الخبرات في المجال الصحي وباقي المجالات الاقتصادية.
سابعاً: اعتماد مبدأ التشاركية في صناعة القرار والشراكة مع القطاع الخاص كمتطلب أساسي لنجاح أي خطط يتم اعتمادها.
ثامناً: توفر الإرادة السياسية المقرونة بتجسير فجوة الثقة مع الناس لوضع الخطط الاقتصادية موضع التنفيذ.
لا شك أن هناك كثيراً من العناصر التي لم يتم ذكرها. غاية هذا المقال، التأكيد على أن المرحلة المقبلة تستوجب إعادة التفكير جذرياً في نظم الحوكمة في العالم العربي. فإن كان التشديد الأمني والتباعد الاجتماعي عنوانا لمواجهة الأزمة اليوم، فإن الانفتاح المجتمعي والإقليمي والتشاركية السياسية من أهم مفاتيح تطبيق الخطط الاقتصادية التي سيتم وضعها لمعالجة الأزمة على المديين المتوسط والبعيد.
بالاتفاق مع “الشرق الاوسط”