بقلم: هاني المصري
عقدت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير طوال ثلاثة أشهر اجتماعًا تشاوريًا فقط، ومن المخطط أن تعقد اجتماعها الرسمي الأول اليوم رغم الأحداث الدراماتيكية العاصفة والتحديات الجسيمة التي تواجه الشعب والقضية، من دون أن يسفر اجتماعها التشاوري عن شيء يذكر سوى بيان تقليدي لم يلتفت إليه أحد، وليس من المتوقع أن يسفر اجتماع اليوم على ما يحمل الأمل بإعادة الحياة للمنظمة المغيبة منذ اتفاق أوسلو، باستثناء مناسبات مختلفة دبّت فيها الحياة قليلًا، خصوصًا بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية في العام 2006، حيث استحضرت المنظمة لاستخدامها في وجه السلطة التي أصبحت “حماس” شريكة فيها، ولكن من دون استعادة دورها الفاعل.
وبعد غياب لأكثر من ثمانين يومًا، من المفترض أن تعقد اللجنة المركزية لحركة فتح اجتماعها الأول اليوم، ما يعكس أنها مغيبة عن الفعل والتأثير واتخاذ القرار، على عكس الشائع أن “فتح”، خصوصًا بعد تشكيل حكومة برئاسة عضو من لجنتها المركزية هي الحاكمة للسلطة، في حين الحقيقة أن السلطة رغم أن معظم وزرائها وموظفيها الكبار والصغار أعضاء في فتح، وكذلك قادة وضباط وأفراد الأجهزة الأمنية، تحكم باسم “فتح”، في وقت فيه “فتح” كمؤسسة في قائمة المغيبين والغائبين عنها، بينما الرئيس بمساعدة عدد من المساعدين والقادة هو الذي يجمع كل السلطات بيده، نتيجة تآكل الشرعية والمؤسسات بحكم عوامل وأسباب عديدة، أهمها فشل التسوية، وانتقال حكومة الاحتلال من إدارة الصراع إلى حسمه وفقًا للشروط الإسرائيلية، والانتقال إلى مرحلة إقامة “إسرائيل الكبرى” في فلسطين.
وهذا كان احدى نتائج وقوع الانقسام في العام 2007، الذي عطّل المجلس التشريعي وأوجد سلطتَيْن متنازعتَيْن طغى الصراع بينهما على المكاسب والموازنات والقرار وتمثيل الفلسطينيين على أي شيء آخر، وتفاقم الموقف بعد حل المجلس التشريعي، وفي ظل أن الإعلام لا يلعب دوره كسلطة رابعة، إلى جانب أن القضاء ليس فاعلًا ولا مستقلًا.
أصبح نظامنا السياسي بعد استحداث منصب رئيس الحكومة في العام 2003 نظامًا مختلطًا رئاسيًا برلمانيًا في البداية، حيث توزعت السلطات بين الرئيس والحكومة، ثم عاد في عهد الرئيس الحالي نظامًا رئاسيًا رغم بقائه من حيث الشكل مختلطًا.
وفي هذا السياق، لا بد من التوقف لماذا تضمن إعلان الطوارى في المرة الأولى تفويضًا لرئيس الحكومة، في حين أسقط التفويض عند تمديد القانون، ولا نعرف حتى كتابة هذه السطور هل ستمدد حالة الطوارئ أم لا، وهل ستتضمن إذا مددت تفويض رئيس الحكومة أم لا.
هذا يدل على وجود صراع داخل المكونات المختلفة للسلطة وفي “فتح” ظهر جليًا بصدور القوانين بمراسيم بمعرفة (كما هو مفترض قانونيًا) أو من دون معرفة الحكومة، حتى في قضايا في صميم صلاحياتها، مثلما حصل في القانونَيْن بمراسيم فيما يتعلق بزيادة رواتب الوزراء ومن في حكمهم ومنحهم رواتب تعاقدية وبأثر رجعي. فهذان القانونان سببا فضيحة وأثارا ضجة كبرى أدت إلى التراجع عنهما في نفس يوم الكشف عنهما، مع السكوت عن القانون بمرسوم الخاص بمؤسسة الرئاسة، الذي يقيم حكومة موازية للحكومة، ويتعارض مع القانون الأساسي الذي لا يعرف شيئًا اسمه مؤسسة الرئاسة، ويعطي الرئيس القدرة على القيام بعمله فقط من خلال السلطة التنفيذية المحصورة فقط بالحكومة.
لا يمكن تفسير ما يجري إلا بوصفه صراعًا فوضويًا على النفوذ والمال والصلاحيات، ووثيق الارتباط بالصراع على الخلافة الذي يؤججه غياب آلية انتقال قانونية بسبب حل المجلس التشريعي، وكذلك عدم وجود آلية متفق عليها في حركة فتح، أو بينها وبين مختلف الفصائل، خصوصًا “حماس”، وقوى المجتمع في القطاع الخاص والمجتمع المدني، وعدم صلاحية المنظمة لسد الفراغ كونها غائبة ومغيبة، وليست محل ثقة ومحل خلاف ظهر واضحًا بعقد مجلس وطني بمن حضر، وسط ملاحظات جوهرية على كيفية عقده ومدى تمثيله، إضافة إلى عدم وجود زعامة قوية معترف بها بلا منازع بحيث تمر مرحلة الانتقال بسلاسة.
كل هذا يحدث في وقت ينتشر فيه وباء كورونا، وفي ظل أزمة اقتصادية تمر بها السلطة، وتعمقت بعد كورونا، وعشية قيام الحكومة الإسرائيلية بضم أجزاء من الضفة.
حالنا يشبه حالنا حال أهل بيزنطة الذين انشغلوا بالصراع الداخلي وبالخلاف على جنس الملائكة، وهل يدخل الفيل من خرم الإبرة أم لا، بينما تربّص بهم الأعداء واستعدّوا لاقتحام مدينتهم، ما أدى إلى هزيمتهم هزيمة شنعاء.
كيف سنتمكن في ظل هذه الأوضاع من إحباط الضم، ومنع تنفيذ رؤية ترامب التي بات واضحًا أنها تستهدف تصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها؟
حتى الآن، الرد الفلسطيني على الضم القادم نمطي ولا يصل إلى مستوى الخطر والتحدي. فالرئيس أعلن بأن الرد على الضم عندما يحدث سيكون بإلغاء الاتفاقات مع إسرائيل. أما “حماس” فمشغولة بمفاوضات غير مباشرة للتوصل إلى صفقة تبادل الأسرى، وتثبيت التهدئة التي باتت الهدف حتى إشعار آخر .
السؤال القديم الجديد ما العمل؟
ما المطلوب فعله قبل أن يحدث الضم ومن أجل إحباطه، لأن رفضه لا يعني إفشاله، مثلما لا يعني رفض رؤية ترامب على أهميته إفشالها، لا سيما أن التحرك الفلسطيني ينحصر في إجراء الاتصالات ودعوة وزراء الخارجية العرب لعقد اجتماع وإصدار بيان، وهذا لا يمنع الضم .فالمطلوب إجراءات وليس شجب واستنكار وبيانات وتهديدات لفظية فقط.
يتطلب إحباط الضم في البداية، بلورة رؤية شاملة وإستراتيجية جديدة، وعلى أساسها ترتيب حركة فتح وتوحيدها وتفعيلها، أولًا، ومن ثم تفعيل المنظمة وضم الفصائل التي لا تزال خارجها، وخاصة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ثانيًا، واستعادة الثقة بين القيادة والشعب، على أساس برنامج القواسم المشتركة وشراكة حقيقية وديمقراطية توافقية، ثالثًا. وبالتالي، سيعرف الاحتلال أن الرد على الضم سيكون مقاومة مستمرة بلا هوادة ولا توقف قبل تحقيق الأهداف الوطنية، واستخدام لكل أوراق الضغط السياسية والقانونية والشعبية والكفاحية، وعلى رأسها سلاح المقاطعة والمحكمة الجنائية الدولية. وعندما ستندلع انتفاضة شاملة أقوى من سابقاتها ستفكر حكومة الاحتلال مهما كانت متطرفة مرات عدة قبل الشروع في الضم، وإذا ضمت ستضطر للتراجع عنه.
أما إبقاء البيت الفلسطيني ممزقًا من دون رؤية ولا إستراتيجية ولا خطط عملية وبلا إرادة، ووسط حالة من التوهان والانقسام والصراع على السلطة والنفوذ والمكاسب والمال والخلافة، فهذا لا ينتج سوى انتظارًا ورهانًا على بيني غانتس، على أمل إقناع الرئيس الأميركي دونالد ترامب لعل وعسى لا يشجع على الضم، أو على نجاح الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة، وكأن وضعنا إذا نجح أو في عهد باراك أوباما لم يكن سيئًا، أو أضعف الإيمان الرهان على ضم حكومة نتنياهو لكتلة أو كتلتين من الكتل الاستيطانية بحيث يمكن الاكتفاء برفض الخطوة من دون فقدان الأمل باستئناف المفاوضات للتوصل إلى ما يسمى “حل الدولتين”.
لا يريد أصحاب المصالح والأوهام بالتوصل إلى تسوية تفاوضية تتضمن قيام دولة فلسطينية التخلي عن أوهامهم، لأن استمرارها يغنيهم عن الاستعداد لخوض المجابهة وخوضها بمبادرة أو عندما تفرض نفسها، فذلك يمكّنهم من الحفاظ على ما حققوه من نفوذ وثروة وسلطة، وربما زيادتها.
المخرج واحد، أن يدرك الجميع أن القضية الفلسطينية والشعب وقواه على اختلافها والأرض مهددة بالثبور وعظائم الأمور.
وإذا لم تتحرك القيادة والقوى المهيمنة فلا بديل عن تحرك الشعب بقيادة طلائعه لفرض إرادته، مثلما تحرك في إضراب المعلمين، والتضامن مع إضراب الأسرى، والضمان الاجتماعي، وضد تأجيل تقرير غولدستون، وفي هبة البوابات في الأقصى، ومسيرات العودة، وموجات المقاومة الشعبية والمسلحة والمقاطعة.
فالشعب الذي ينهض دائمًا مثل طائر الفينيق من الرماد آن له أن يتحرك وسيتحرك عاجلًا أم آجلًا تحركًا يربط ما بين إصلاح العامل الذاتي الفلسطيني وتفعيله وتحريكه، من خلال إعادة بناء وإصلاح وتفعيل وتغيير وتوحيد مؤسساته في سياق تواصله كفاحه الوطني. فمتى يحدث ذلك؟ علمه عند الله، ولكنه حتمًا آتٍ آتٍ آتٍ.