بقلم:جيمس زغبي
الأنباء التي أشارت في الآونة الأخيرة إلى اجتماع كل الفصائل الفلسطينية، ربما مثلت بارقة أمل؛ لأن استطلاعات رأي «مؤسسة زغبي للخدمات البحثية»، تشير إلى أن أكثر ما يريده الفلسطينيون من قيادتهم هو الوحدة وتقديم استراتيجية تمضي بهم قدماً نحو الحصول على حقوقهم. ولذا كان من المخيب للآمال، نوعاً ما، أن نقرأ تقارير عن الخطب التي ألقيت في الاجتماع؛ لأنها أطنبت في الرفض، وافتقرت إلى استراتيجية ورؤية. وبالتركيز على الغضب من الاتفاق الإماراتي- الإسرائيلي، أخطأت القيادات الفلسطيني الهدف. فتحرك الإمارات لإقامة علاقات مع إسرائيل لوقف الضم ليست سبب المحن الفلسطينية.
ودعوني أولاً أسرد عليكم قصة لم أكشفها من قبل قط. في بداية التسعينيات، ذهبت إلى تونس لاجتمع مع قادة فلسطينيين. فقد طلب مني البيت الأبيض أن أخبرهم عن مشروعنا الخاص ببناء السلام، وهو مسعى دشنه آل جور، نائب الرئيس الأميركي حينذاك، للمساعدة في تنمية القطاع الخاص الفلسطيني. وفي مرحلة ما من محادثتنا بدأ قيادي كبير يتحدث عن أهمية الاتصالات والسلطة في خدمة القضية الفلسطينية، فتدخل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش قائلاً: إن الرؤية مطلوبة أيضاً. ولوح القيادي بيده بالرفض قائلاً: «لا، إنها غير مهمة».
وظل هذا الحوار يتردد في ذهني؛ لأنه لخص خطأ القيادة الفلسطينية وافتقارها للرؤية في ذاك الوقت. لقد فقدوا الشرارة والطريق بعد انتكاسات متكررة ثقيلة مثل «أيلول الأسود» في الأردن واستخدامهم أعمالاً مروعة من العنف ضد الأبرياء، وطردهم من بيروت عام 1982، ومساندتهم الرعناء لصدام حسين عام 1990. لقد خبت الشرارة، ولم تعد تضيء الطريق إلى الأمام.
كتبت من قبل عن وقوعي في هوى فلسطين بداية السبعينيات. فقد التقطت الشرارة عام 1971 أثناء زيارتي لمخيمات اللاجئين في لبنان والأردن. وألهمني كثيراً الفن التشكيلي لإسماعيل شموط، وكمال بلاطة، وشخصيات غسان كنفاني الروائية، وشعر محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد. وامتلأت رؤية مستقبل فلسطين بالحوارات والكتابات السياسية لشفيق الحوت ونبيل شعث وإدوارد سعيد. وتبنى جيل كامل من العرب والأميركيين العرب وعدد كبير آخر، على امتداد العالم، هذه الرؤية.
وحين وقف ياسر عرفات في اجتماع لدول عدم الانحياز، أو في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، في كلمته التاريخية عام 1974، لم يكن يتحدث عن شعبه الفلسطيني فقط، بل أيضاً عن الذين يدعمون العدل للمقموعين على امتداد العالم. كان هناك شرارة ورؤية. لكن ذاك عهد مضى، أما الآن، فيؤسفنا أن نقر أن الحركة الفلسطينية بلا رؤية واضحة أو استراتيجية. فقد أصبح اللاجئون الفلسطينيون بلا أمل أو دعم. والسلطة الفلسطينية أصبحت تعتمد على الدعم الدولي في دفع رواتب بيروقراطيتها المتضخمة وقواتها الأمنية. وبعد أن منعتها إسرائيل من فرصة تطوير اقتصاد مستقل، كما كان الحال قبل اتفاقات أوسلو، اضطر أكثر من 100 ألف فلسطيني للاعتماد على العمالة بالمياومة في إسرائيل أو المستوطنات الإسرائيلية.
واستراتيجية «حماس» الوحيدة في غزة الفقيرة هو البقاء، ليس من أجل الشعب الذي يعاني في هذا القطاع البائس، بل من أجل استمرار سوء حكمها. لقد فشلت «حماس» في تقديم رؤية. وتورطت مراراً في عنف مستفز يؤدي إلى نتائج سلبية. واستغلت إسرائيل هذه الاستفزازات لتسويغ عقابها الجماعي لكل سكان غزة المدنيين.
وتكشف لنا استطلاعات رأي «زغبي للخدمات البحثية» عن فقدان الفلسطينيين للأمل. صحيح أنهم متشبثون برغبتهم في الاستقلال، لكنهم لا يعرفون كيف سيحقق لهم زعماؤهم هذا. ولهذا تأثير على العالم العربي الأوسع. فمازال العرب مهتمين بالفلسطينيين، لكنهم لا يرون طريقاً إلى الأمام. وبناء على ذلك، حين سألنا العرب على امتداد المنطقة عام 2019، إذا ما كانوا يرغبون في إقامة علاقات مع إسرائيل دون سلام، أجابت أغلبيات منهم بأنهم يرغبون في ذلك. وحين سألناهم عن سبب هذا، عبروا عن أملهم في أن يؤدي هذا إلى إنهاء القتل، مما قد يعطي العرب بعض النفوذ لدعم الفلسطينيين، وربما يتمخض عن رخاء وسلام أكبر في الشرق الأوسط. وصرحت غالبيات من سكان المنطقة للمركز أنهم يريدون من القيادات العربية أن تجرب نهجاً آخر.
ويخشى الفلسطينيون، الآن، من أن يفتح التحرك الإماراتي الباب أمام دول عربية أخرى لإقامة علاقات مع إسرائيل. لكن ماذا لو اقترحت هذه الدول شروطاً مثل وقف الاستيطان ومنح المزيد من الحقوق للفلسطينيين؟ ربما لن يكون بين الشروط إنهاء الاحتلال، لكن، أليس من الممكن أن يكون في هذه الشروط مزايا؟
سمعت في الآونة الأخيرة، بعض المعلقين يتحسرون قائلين: إن التحرك نحو إقامة علاقات مع إسرائيل يمثل «طمساً» للقضية الفلسطينية. وهذا هراء، فما دامت غالبية السكان، من النهر إلى البحر، من العرب الفلسطينيين، وما دامت هذه الغالبية محرومة من حقوق المساواة والعدل، ومادام الفلسطينيون في الشتات محرومين من حقوقهم في العودة إلى منازل أسلافهم والحصول على ميراثهم، فلا ولن تموت القضية الفلسطينية.
المطلوب هو إعادة إحياء حلم ورؤية الفلسطينيين في المستقبل، وإحياء استراتيجية يمكنها إلهام الفلسطينيين والعرب ومؤيديهم. وإذا لم تستطع القيادات الفلسطينية تجاوز مجرد الكلام والإجراءات التي تحافظ على بقائها، فقد حان وقت التحول إلى المجتمع المدني الفلسطيني، من الشعراء والفنانين والمثقفين والمستثمرين والمعلمين وغيرهم، لإعادة رسم رؤية لفلسطين توحد وتلهم هذا الجيل. وهذا مطلوب أكثر من أي وقت مضى.