15 أيلول الأسود!

16 سبتمبر 2020آخر تحديث :
15 أيلول الأسود!
15 أيلول الأسود!

بقلم: إبراهيم ملحم

المتحدث الرسمي باسم الحكومة الفلسطينية

ما كان سراً صار جهراً، وما ظل مكتوماً بات معلوماً، فثمة الكثير من الشواهد والإمارات التي كانت تشي بأنّ بعض الدول العربية تربطها بإسرائيل علاقات متينة ظلت تجري سنوات طويلة خلف ستائر ثقيلة من السرية والكتمان، ولطالما سارع المتحدثون الرسميون باسم تلك الدول مذعورين إلى نفي تلك العلاقة كلما تبدت بعض خيوطها عبر تسريبات صحفية أو مخابراتية إسرائيلية أو عالمية.

طيلة عقود الصراع السبعة الماضية مع الاحتلال الإسرائيلي، مرت القضية الفلسطينية في علاقاتها مع الدول الشقيقة بحالة من المد والجزر، تخللتها صراعات، منعطفات وانزلاقات، نجاحات وإخفاقات، خيبات وانكسارات، حروب ومؤامرات، لكن القضية لم تسقط يوماً عن جدول الأولويات العربية باعتبارها القضية المركزية الأُولى في الصراع العربي الإسرائيلي، وظل الموقف العربي التقليدي مناصراً ولو بأضعف الإيمان للحق الفلسطيني، إنْ بمشاريع القرارات المقدمة لجامعة الدول العربية أو تلك المقدمة للهيئات الاممية والدولية، ورغم أنها ظلت مجرد حبر على ورق وممنوعة من الصرف، فإنها شكلت جداراً، وإن كان هشاً، يستند إليه الفلسطيني في صراعه الطويل مع المحتل، الذي لا يقيم وزناً لتلك القرارات العربية، ولا يعترف بما يقابلها من قرارات أُممية.

مع مجيء ترامب إلى البيت الأبيض قبل أربع سنوات، واحتكاكه الخشن بالملف الفلسطيني، ومحاولته وطاقمه الثلاثي كوشنر وغرينبلانت وفريدمان، إجراء مقاربات لحل الصراع هي أقرب لتجار العقارات منها لواضعي السياسات وراسميها، وصلت إلى حد محاولة تخليق جسمٍ غريبٍ مُشوّهٍ خارج رحم الشرعية الدولية أُطلق عليه اسم “صفقة القرن”، التي هي وصفةٌ للإذعان والاستسلام لا للسلام، الأمر الذي تطلب اتخاذ موقف فلسطيني حازم لا لبس فيه من تلك الصفقة المشؤومة ومُعديها بلغت حد إعلان سيادة الرئيس محمود عباس قطع العلاقات مع الولايات المتحدة ورفض استقبال أيٍّ من مبعوثيها الذين بدت مواقفهم على يمين اليمين الإسرائيلي المتطرف في تبني السياسات المعادية للشعب الفلسطيني، وتمثلت بقطع المساعدات، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وإلغاء الأونروا، وتشريع الاستيطان، واعتبار القدس عاصمةً لإسرائيل، في إجراء ٍفظٍّ لم تُقدم عليه أيٌّ من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بالرغم من انحيازها الكامل لإسرائيل، قبل أن يعلن سيادته قرار القيادة بوقف كل أشكال العلاقة مع إسرائيل بما فيها التنسيق الأمني.

في حمأة المواجهة الفلسطينية- الأمريكية الإسرائيلية حول الصفقة وما تلاها من عمليات ترويج لها اتخذت من “المنامة” منصةً لعرض “مفاتنها” وإغواءاتها المالية والاقتصادية، واعدةً بالازدهار على حساب الحقوق الوطنية المشروعة، تعرضت القيادة الفلسطينية لحصارٍ عربيٍّ مكتوم، وانتقل بعض الأشقاء من شركاء إلى وسطاء، يمارسون الترغيب تارةً، وطوراً الترهيب، لثني الشعب الفلسطيني عن معارضته صفقةَ الاستسلام التي تسلب حقوقه وتلغي وجوده كشعبٍ له حق إقامة دولته على تراب أرضه بعاصمتها القدس، وفق قرارات الشرعية الدولية.

ظل الشعب الفلسطيني يكظم غيظه ويُداري غضبه من ظلم بعض ذوي القربى، الذين ما انفكوا يحاولون بيعه بثمنٍ بخس، فيما كانت الرغبة بتطبيع العلاقات مع إسرائيل تفضح عيون العاشقين وهم يُروّجون للنماء والرخاء، في ظل علاقاتٍ طبيعيةٍ مع الأعداء الذين يواصلون عمليات القتل والسلب وتدنيس المقدسات والسطو على الثروات وهدم الممتلكات وتجريفها.

يوم التاسع من أيلول 2020 كانت النازلة وتبدت ملامح المرحلة، وانجلت الغمامة، عندما تآلف بعض العرب مشاركين أوصامتين لإسقاط مشروع دولة فلسطين بإدانة ما أقدمت عليه دولة الإمارات من عملية تطبيعٍ مع إسرائيل، في موقفٍ يُشكل خروجاً سافراً عن الموقف العربي الذي تبنَّى مبادرةً عُرفت بمبادرة السلام العربية، وصارت جزءاً من قرارات الشرعية الدولية ترفض إقامة أي علاقاتٍ تطبيعيةٍ مع إسرائيل قبل اعترافها بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس، وحل قضية اللاجئين وفق قرار مجلس الأمن رقم 194 لتكون تلك الواقعة بحجم حفرة الانهدام لفلسطين، في وقتٍ هي أحوج ما تكون فيه إلى جدار الإسناد العربي على هشاشته، وليقف الفلسطيني في حالة انكشافٍ لم يشهد مثيلا لها من قبل.

يوم الثلاثاء الخامس عشر من أيلول 2020 سيُسجَّل في رزنامة الألم الفلسطيني كيومٍ أسود حزينٍ في تاريخ العرب والمسلمين، تتشح فيه فلسطين بالسواد لكآبة المنظر وسوء المنقلب، مما آلت إليه مواقف وسياسات بعض الإخوة والأشقاء على نحوٍ تلاشت فيه الفوارق بينهم وبين مواقف الأعداء.

على بعد أسابيع من السباق الرئاسي الأمريكي في الثالث من تشرين ثان المقبل، يقف بعض العرب اليوم في الطابور فمنهم من طبع ومنهم من ينتظر تقديم أوراق اعتمادهم وبراءات اختراعهم لتعويم ترامب، من الغرق في أزماته الداخلية، وإنقاذ نتنياهو من مستنقع فضائحة المالية، ليقدموا القضية الفلسطينية قرباناً على مذبح مصالحهم، وانكساراتهم، وسيادتهم المدعاة لتبرير أُعطياتهم من غير حرّ مالهم، ولا حرّ إرادتهم التي باتت رهناً بأيدي أعدائهم.

بفجيعة اللحظة المحتدمة في الزمن العربي الرديء، وبقسوة الصورة الطالعة من حفل التطبيع المجاني في حديقة البيت الأبيض وانعكاساتها وانكساراتها على قلوب المفجوعين بآثار القدم الهمجية في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس الذين” لايضرهم من خذلهم ولا ما أصابهم من لأواء”، كما جاء في حديث رسولنا الكريم قبل أكثر من ألف وأربعمئة عام، فإن الخطوة الإماراتية بدت في انزياحاتها الحادة وتداعياتها الخطيرة على الأمن القومي العربي، كقطار خرج عن مساره، وكمسبار حاد عن مداره، وسط انفتاح شهية الطامعين بثروات الأمة ومقدراتها لتعميق انكساراتها حتى تفقد مناعتها، وتضعف منعتها.

رغم سخم الليل الذي يسد الأفق العربي سنظل متمسكين بأُمتنا العربية وشعوبها الحرة الأبية التي ما زالت حناجرها تصدح بصيحات الحرية، ولن تسقط من ذاكرتنا مواقف تلك الشعوب وما قدمته من تضحيات جسام من أجل فلسطين وقضيتها العادلة، ولن نتوقف عن ترديد ما وقر في قلوبنا، وسكن أحلامنا، ولهجت به ألسنتنا منذ نعومة أظفارنا: “بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان، ومن نجدٍ إلى يمن إلى مصرَ فتطوانِ”.

إنّ الرد الفلسطيني على بعض من خذلنا من الأشقاء يكون بتصليب موقفنا، وتمتين مكامن قوتنا، وسد الثغرات في جدار وحدتنا التي قد ينفذ منها أعداؤنا، وذلك بالذهاب لتجديد حياتنا الديمقراطية، لتكون صناديق الاقتراع سلاحنا في مواجهة أعدائنا والمتربصين بقضيتنا.

ونستذكر ونذكر الأشقاء بمقاطع دالةٍ من قصيدة الشاعر أمل دنقل، لعل الذكرى تنفع “المطبعين”:

أترى حين أفقأ عينيك

ثم أثبت جوهرتين مكانهما..

هل ترى..؟

هي أشياء لا تُشترى..

وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك

بيدٍ سيفها أثْكَلك؟