لم تكن مجزرة صبرا وشاتيلا حادثاً عرضياً على هامش حرب أهلية لبنانية، ولا أثراً جانبياً لاشتبكات مسلحة بين فصائل وميليشيات متناحرة. فكل ما جاء في وثائق ما بعد المجزرة يوحي بما لا يترك مجالا للشك بأن هذه المجزرة تم التحضير لها جيداً لتكون أحد فصول الاعتداءات المرعبة، بهدف ترهيب سكان المخيمين من الفلسطينيين، ومن خلفهما المحيط الجغرافي اللبناني الممتد من الضاحية الجنوبية لبيروت وصولاً إلى ما كان يعرف ببيروت الغربية، ولتكون أيضاً عملية انتقامية من مخيم شاتيلا على وجه التحديد.
شكّل يوم 14 أيلول/سبتمبر 1982 محطة بارزة في تاريخ لبنان، إذ شهد اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل الذي كان قد انتخب قبل ثلاثة أسابيع، وذلك في انفجار هز مقر حزب الكتائب في منطقة الأشرفية (بيروت الشرقية). هناك كان بشير الجميل يعقد اجتماعاً اعتيادياً لكوادر حزبه في منطقة
في بلد كانت فيه التعقيدات السياسية على أشدها، وتزداد فيه يوماً بعد يوم مقولة “حروب الآخرين على أرضنا”، كان طبيعياً أن توجه أصابع الاتهام في اغتيال الرئيس إلى “الآخرين”، وهؤلاء كانوا الفلسطينيين، وتحديداً منظمة التحرير، ومعها في الدائرة نفسها السوريين، وربما أيضاً بعض حلفاء الطرفين المذكورين. وهو ما يفسر حماسة “القوات اللبنانية” التي دخلت إلى مخيم شاتيلا وارتكبت واحدة من أبشع المذابح في تاريخ لبنان الحديث، وهي المجزرة التي سيصطلح على تسميتها لاحقاً “مجزرة صبرا وشاتيلا”.
الحصار
يوم الأربعاء الموافق فيه 15 أيلول/سبتمبر 1982، كانت قوات الاحتلال الإسرائيلية قد بدأت عمليتها العسكرية للسيطرة على بيروت الغربية، وبالتزامن مع هذه العملية كان قادة الحرب الإسرائيليون يعقدون اجتماعات متتالية مع قادة “القوات اللبنانية” وهي ميليشيا موحدة لليمين المسيحي أسسها بشير الجميّل، وقد جرى خلال هذه اللقاءات البحث في دور تلك الميليشيات بالسيطرة على بيروت الغربية، وقد اعترف أريئيل شارون الذي كان وزيراً للدفاع في إسرائيل آنذاك، في 22 أيلول/سبتمبر من العام نفسه، أنه تمت في أحد اللقاءات المعقودة بين الجانبين “مناقشة مبدأ دخول هذه القوات إلى مخيمات اللاجئين في بيروت”، وقد عبّر أحد قادتها خلال الاجتماع عن الرغبة بالمشاركة قائلاً للإسرائيليين: “منذ أعوام، نحن ننتظر هذه اللحظة”.
وبناء على نتائج هذه الاجتماعات واللقاءات، جرى التحضير لدخول “القوات اللبنانية” إلى مخيم شاتيلا، والتي استبقت عملية الاقتحام باتخاذ كافة الإجراءات للدخول إلى المخيم، ومن تلك الإجراءات وضع إشارات دلالية على الجدران المتاخمة للطرق (خصوصاً طريق المطار) التي ستعبرها إلى مخيمي صبرا وشاتيلا، وشكّل مطار بيروت الدولي إحدى نقاط الانطلاق الأساسية التي تجمع فيها المهاجمون قبل البدء بتنفيذ
أمّا ساعة الصفر للدخول إلى المخيم فقد تمّ ربطها بانتظار إنهاء الجيش الإسرائيلي سيطرته على بيروت الغربية وتشديد حصار مخيم شاتيلا، وخلال ثلاثين ساعة كان لهم ذلك إذ تمكّن الجيش الإسرائيلي من تنفيذ مهمته على أكمل وجه، ومع هذا الحصار كان المسرح قد أعدّ جيداً لفسح المجال أمام “القوات اللبنانية” للدخول إلى المخيمين خصوصاً مخيم شاتيلا، أمّا الإسرائيليون وعلى رأسهم أريئيل شارون فاختاروا الإشراف على المذبحة من مسافة لا تتجاوز المئتي متر تقريباً وتحديداً من أسطح ثلاث عمارات قاموا باحتلالها من مساكن ضباط الجيش اللبناني القريبة من المدينة الرياضية.
الدخول إلى شاتيلا
لم يكن مخيم شاتيلا عادياً بالنسبة إلى الإسرائيليين ولا إلى المتعاملين معهم على حد سواء، وكذلك بالنسبة إلى اللاجئين الفلسطينيين. فهذا المخيم يتميز بموقعه الجغرافي القريب من بيروت الغربية وضاحية بيروت الجنوبية، وفي الوقت ذاته هو خزان المقاومة والفدائيين وفيه كان يوجد مراكز لتدريب المقاتلين وكلية عسكرية، علماً أن كل المقاتلين الفلسطينيين كانوا قد خرجوا ليس من مخيم شاتيلا وحسب، وإنما من كل المخيمات والمواقع في بيروت، وذلك بموجب اتفاقات “فيليب حبيب”، في مقابل الحصول على ضمانات دولية (أميركية على وجه التحديد) بعدم المس بأبناء المخيمات أو الانتقام منهم.
كذلك فإن مخيم شاتيلا كان المكان الذي خرجت منه المقاومة دلال مغربي وبعض فدائيي عملية ميونيخ، وعليه كان الإسرائيليون وحلفاؤهم يرغبون بتدمير المخيم على من فيه وارتكاب أكبر قدر من عمليات القتل في سبيل الانتقام من أهل المخيم ليس أكثر.
يوم الخميس 16 أيلول/سبتمبر 1982، شاهد سكان المخيم القنابل المضيئة في السماء، وكان هدف هذه القنابل التي أطلقتها قوات الحصار الإسرائيلية، إنارة الطريق للقوات التي ارتكبت المجزرة والتي تشكّلت من “القوّات اللبنانية” بالدرجة الأولى، وانضم إليها أفراد من جيش “سعد حداد” والذي شارك بالعملية بقوات “لبنان الحر”، وقد تعرّف الشهود على هؤلاء من خلال لهجتهم الجنوبية والشارات التي كانوا يضعونها على بدلاتهم العسكرية، وقد قدّر مجموع القوات المهاجمة بنحو 400 مسلح في ذروة المجزرة. وقد وضع على رأس هذه القوّات إلياس حبيقة (وزير لبناني سابق اغتيل في 24 يناير/ كانون الثاني 2002 والذي كان أحد قادة “القوات اللبنانية”.
ويروي شهود ممن كانوا في المخيم أن إحدى الدبابات الإسرائيلية تقدمت مسافة أمتار داخل المخيم عبر الشارع الرئيسي فيه، وقد فسّر ذلك على أنه محاولة لمعرفة ما إذا كان هناك مقاومة في داخله لكن الدبابة عادت أدراجها من دون أن تتعرض لأي إطلاق نار. وهكذا كانت الأرضية قد أعدّت جيداً لدخول “القوّات اللبنانية” إليه، وبالفعل فقد تحركت قوة من 150 مسلحاً كانت تجمعت في مطار بيروت باتجاه الأوزاعي ومن هناك إلى ثكنة “هنري شهاب” التابعة للجيش اللبناني حيث كانت تتجمع “القوات اللبنانية”، وإلى الشمال قليلاً من الثكنة كان الإسرائيليون قد أقاموا مركزاً للرصد والمتابعة، علماً بأن هذا المركز يبعد نحو 200 متر من مخيم شاتيلا حيث كانت ترتكب المذبحة.
بداية المجزرة
بدأت عمليات القتل في الساعة الخامسة والنصف تقريباً وتركزت في أطراف المخيم، إذ قام المهاجمون بقتل كل ما يتحرّك من دون أن يدخلوا إلى أزقة المخيم، وبذلك بدأت المجزرة التي استمرت لنحو ثلاثة أيام تقريباً ولم يتم التمييز فيها بين لبنانيين وفلسطينيين وسوريين ومصريين وسودانيين، ولا حتى أبناء جنسيات عربية وأجنبية أخرى صودف وجودهم في المكان. وكان بين المفقودين، بحسب أمنون كابليوك، تسع نساء يهوديات كنّ قد تزوجّن من فلسطينيين خلال فترة الانتداب البريطاني لفلسطين وقد تبعن أزواجهن إلى لبنان أثناء نزوح سنة 1948. وكانت الصحف الإسرائيلية نشرت عقب المجزرة أسماء 4 منهن.
كان المهاجمون يحطمون أبواب البيوت ويقتلون من في داخلها من دون أن يقولوا شيئاً، فقد كانوا يطبقون خطة محكمة تمّ وضعها بهدف القتل لا غيره، وبحسب ناجين من المجزرة فإن المسلحين لم يكتفوا بالقتل بل قاموا باغتصاب الفتيات ومارسوا عمليات نهب وسرقة، وكانوا يقطعون معاصم النساء المقتولات لنزع الحلي من أياديهن.
تروي شهادات الناجين كيف قضى المسلحون على كل شكل للحياة في المخيم، فالأطفال حتى الرضع منهم، لم يسلموا من القتل، بُقرت بطون النساء الحوامل وأخرجت الأجنة منها، بعض المشاهد تجسّد الوحشية التي مارسها المهاجمون إذ كانوا يتراهنون على جنس المولود بعد قتلهم لإمرأة حامل.
في هذه الأثناء، وفي الوقت الذي كانت تسير فيه المذبحة كما هو مخطط لها، لم يفلح بعض الهاربين من شاتيلا في إقناع ضباط الجيش الإسرائيلي الذين يحاصرون المخيم بالتدخل لوقف المجزرة الجارية.
في محيط المخيمين كانت الحركة طبيعية ولم يصدّق أحد أن هناك مجزرة جارية. لكن مع بدء تدفق الجرحى إلى مستشفيي عكا وغزة، وكلامهم عن فظائع وأهوال تجري في مخيم شاتيلا، صارت الأنباء واقعية، وبدأ الجميع يصدّق بأن هناك شيئاً ما يجري على أرض المخيم، وأن ذلك شيء يتعلق بـ “مذبحة”. وعليه بدأ اللاجئون بالهروب على عجل وتجمّع بعضهم في باحة مستشفى عكّا لاعتقادهم أن هذا المكان سيكون آمناً وأن المسلحين لن يهاجموا مستشفى، لكن ذلك لم يحدث إذ هاجم عناصر “القوات اللبنانية” مستشفى عكا وارتكبوا فيه عمليات قتل واغتصاب لا تقل عن تلك التي قاموا بها في أزقة المخيمين.
جثث مكدسة ومحاولات للهروب إلى بيروت الغربية
يوم الجمعة 17 أيلول/سبتمبر، بدت الجثث المكدسة ظاهرة للعيان في مخيم شاتيلا، وواصل السكان محاولات الهرب من المخيمين ومن المستشفيات والمساجد باتجاه بيروت الغربية، لكن الإسرائيليين كانوا يقطعون الطريق عليهم ويجبرونهم على العودة إلى المخيمين بالقوة، وهناك كان الموت بانتظارهم..
إن مجرى الأحداث خلال المجزرة يشير بوضوح إلى انه لم يكن هناك رغبة لدى الإسرائيليين بوقف عمليات “القوات اللبنانية” داخل المخيمين، فالمهاجمون أوحوا للإسرائيليين بأنهم يقومون بـ “تنظيف المخيمين من الإرهابيين” على حد زعمهم، أمّا الإسرائيليون فغضوا النظر عن كل الشكاوى التي كان يقدمها لهم الهاربون من الموت، إلى أن اضطروا (الإسرائيليون) إلى الطلب، وبضغط أميركي، من المهاجمين التوقف عن إطلاق النار، ولكن كان ذلك بعد نهار طويل من القتل تبعه صباح دامٍ، أي أن القوات المهاجمة لم تتوقف عن زرع الموت والدمار في المخيمين إلا في صباح يوم السبت 18 أيلول/سبتمبر. وكانت هذه القوات قد هاجمت مستشفى عكا يوم الجمعة في 17 أيلول/سبتمبر، حيث اغتالت بعض المرضى وعدداً من العاملين فيه، ويروي شهود أن بين العاملين كانت الممرضة انتصار إسماعيل التي اغتصبت لأكثر من عشر مرات قبل قتلها من قبل مجموعة من عناصر “سعد حداد”. كما جرى قتل طبيبين هما علي عثمان وسامي الخطيب بالإضافة إلى عامل مصري.
همجية ضد الأطفال
في الساعة السادسة من صباح يوم السبت كانت المجزرة لا تزال مستمرة، وكان المهاجمون ينادون سكان المخيمين عبر مكبرات الصوت للاستسلام حتى يسلموا من القتل، ولدى تسليم الأهالي أنفسهم كانت مجموعات من المسلحين تقوم باصطحابهم بشاحنات إلى جهات مجهولة ولم يعرف مصيرهم منذ ذلك الوقت. أما من لم تتسع لهم الشاحنات من الرجال فاقتيدوا إلى المدينة الرياضية حيث يتواجد الاسرائيليون للاستجواب، وركز الإسرائيليون أسئلتهم عن الفدائيين وكانوا يهددون الأسرى بتسليمهم إلى المهاجمين، وبالفعل تمّ العثور لاحقاً على 28 جثة في المدينة الرياضية لأسرى تم ربط أيديهم إلى خلف ظهورهم قبل إطلاق النار عليهم.
مرّ يوم السبت على أكثر من 1211 شهيداً من الفلسطينيين واللبنانيين، بحسب أحد الإحصاءات الأولية لأعداد الشهداء، فيما ذكرت مصادر أخرى أن عدد شهداء المجزرة تراوح بين 3 آلاف إلى 4 آلاف شهيد ومفقود.
إن هول المجزرة دفع الإسرائيليين إلى التنصل منها على الفور، ومثلهم حاولت ان تفعل “القوات اللبنانية” وخصوصاً حزب “الكتائب”، وهذا ما دفع بعض الصحف اللبنانية التي صدرت بعد المجزرة إلى تجنب تحميل المسؤولية إلى أطراف لبنانية، وقد فهم هذا الأمر على أنه حرص من هذه الصحف على “السلم الأهلي اللبناني”.
وفي المحصلة وبغض النظر عن أعداد الشهداء، فإن ما جرى في مخيم شاتيلا لا يمكن أن يتم من دون علم القوات الإسرائيلية التي كانت تحاصره، إذ روى الشهود أن أهالي المخيم شكلّوا أكثر من وفد لإبلاغ الإسرائيليين بما يحدث من دون جدوى، ويتحدثون عن وفد من كبار السن كان قد ذهب للقوات الإسرائيلية غير أن كل أعضاء الوفد لم يعودوا وقد عثر عليهم جثثاً هامدة لاحقاً.
في مخيم شاتيلا، كان الفلسطينيون وحدهم، فبعد رحيل المقاتلين الفدائيين عن بيروت، ترك اللاجئون بلا حول ولا قوة ولا حماية. فالتعهدات الدولية بحماية أبناء المخيمات والتي وردت في ما عرف باتفاقات فيليب حبيب لم تمنع ارتكاب أسوأ المذابح المعاصرة، كعقاب جماعي للاجئين عزّل ومدنيين على جريمة (اغتيال بشير الجميّل) لم تقترفها أياديهم ولا ناقة لهم فيها ولا جمل.