عشرينيّة هبة القدس والأقصى… والطريق للخروج من متلازمة الفشل

5 أكتوبر 2020آخر تحديث :
عشرينيّة هبة القدس والأقصى… والطريق للخروج من متلازمة الفشل
عشرينيّة هبة القدس والأقصى… والطريق للخروج من متلازمة الفشل

بقلم: الدكتور باسل غطاس*

تمر الذكرى العشرون لهبة القدس والأقصى التي انطلقت في بدايتها على شكل احتجاجات شعبية عفوية في الداخل الفلسطيني ضدّ دخول شارون للمسجد الأقصى وقتل عشرات الشهداء بدم بارد من قبل قوات الاحتلال، التي أطلقت الرصاص الحيّ، مستخدمة بنادق إم 16 بهدف القتل.

لعلّ طريقة إحياء ذكرى هذا الحدث العظيم والشهداء الذين ارتقوا خلاله خير مؤشر على ما آلت عليه أوضاع المجتمع الفلسطيني في الداخل وأعني قياداته وأحزابه ومؤسساته. وأقصد انعدام أي عمل رمزي وعملي لإحياء هذه الذكرى بشكل خاص ومميز ومدروس هذا العام.

كان من المفروض – بل ومن الطبيعي – أن يحتفي أي مجتمع يعد أكثر من مليون ونصف إنسان ويعيش في وطنه وعلى أرض آبائه وأجداده بالذكرى لتخليد ذكرى الشهداء وتوعية الأجيال الشابة، عبر عمل يمتد لأسبوع أو أكثر تشارك فيه كافة مركبات ومؤسسات المجتمع من مجالس محلية وبلديات ومنظمات مجتمع مدني وتنظيمات أهلية ومدارس ولجان أولياء. عمل تصدر من خلاله الكتب والدراسات وتنتج الأفلام الوثائقية وتجري المسيرات الضخمة ويُخصّص خلاله يوم دراسي كامل في المدارس ويكشف الستار عن أعمال فنية تخلد الشهداء وتعقد الندوات ويتم رص وتوثيق وتمكين الرواية، روايتنا التي يجب أن يبقى هاجسها ومطلبها الأول هو معاقبة المجرمين وتحقيق نوع من العدالة التصحيحية لأهالي الشهداء والجرحى. أين نحن من كل ذلك؟

السؤال المركزي هو كيف ولماذا وصلنا إلى هنا؟ ما دور المؤسسة الصهيونية الحاكمة في ذلك؟ وما دورنا نحن كشعب وكمجتمع في ما وصلنا إليه؟ وهل نستطيع مقاربة هذه الأسئلة بتحليل سياسي واقعي وعلمي في نفس الوقت بغية الخروج باستنتاجات تفيد الحركة الوطنية في استعادة دورها المبادر والقيادي؟

أولا: لنبدأ بإعادة التأكيد على استخدام المصطلح “احتجاجات شعبية عفوية” فهكذا فعلا بدأت الأحداث التي أصبحنا لاحقا نسميها “انتفاضة”، وقد تحولت إلى انتفاضة شعبية عارمة بالمعنى الجغرافي والفعلي، أي إغلاق الشوارع الرئيسية وحرق الإطارات واستخدام الحجارة وما إلى ذلك، بسبب عنف الشرطة واستخدام الرصاص الحي وتعمد القتل بدم بارد بواسطة القناصة، وتحوّلت كل جنازة لتشييع شهيد إلى مظاهرات جديدة واحتجاجات في كل مكان. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا ما حدث أيضا في الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 (وهذا هو إلى حد كبير منحى الانتفاضات والثورات الشعبية في كل مكان). هذه حقيقة واضحة وساطعة وضروري أن تشكل اللبنة الأساسية في روايتنا عن الهبة، حيث حاولت المخابرات الإسرائيلية وماكينة الإعلام الرسمي وأيضا “لجنة أور” وبكل الطرق تطبيق نظرية المؤامرة، وأنّ هناك من خطّط ونظّم وقاد الهبة. نحن لا ننكر أبدًا أن نمو الوعي السياسي وبناء الهوية الجمعية الفلسطينية الذي كان يزداد ويتوطد في تسعينيات القرن الماضي والذي كان ظهور حزب التجمّع الوطني الديمقراطي بخطابه ومشروعه الجديد مظهرا من مظاهره ومحرّكًا له في نفس الوقت. كان للتجمّع دوره في تعبئة المجتمع وفي حثّ الناس للخروج والتعبير عن نقمتها واحتجاجها، ولكننا نرفض نظرية المؤسسة الاستعمارية التي تنم عن عنصرية ثاوية فيها بأن السكان الأصليين لا ينتفضون ويحتجون كشعب إلا إذا كانت هناك منظمات وأحزاب حرّضت على ذلك.

ومن الأهمية بمكان التأكيد أن امتدادات هبة القدس والأقصى في المناطق الفلسطينية المحتلة أيضا كانت انتفاضة شعبية سلمية عفوية.

هذا الأسبوع، كشف الجنرال المتقاعد من شعبة الاستخبارات العسكريّة “أمان”، يوسي بن أري، في صحيفة “هآرتس”، أنه أعد تقريرا في نطاق وظيفته خلال الانتفاضة الثانية، بعد مراجعة عميقة ومعمقة لكل المواد الاستخبارية الخام لدى كل أجهزة المخابرات الإسرائيلية، توصل فيه إلى استنتاج قاطع بأنه لم يكن للسلطة الوطنية الفلسطينية والرئيس الراحل ياسر عرفات شخصيا أي دور في انطلاق هذه الانتفاضة. ويدعي بن أري أن تقريره لم يعمّم في أوساط السياسيين ومتخذي القرار لأنه كان عكس ما أراده رئيسا الحكومة إيهود براك وبعده أريئيل شارون، لتحميل عرفات شخصيًا المسؤولية، ويضيف أنه فقط بعد اغتيال إسرائيل للشهيد رائد الكرمي في طولكرم بدأ تنظيم فتح بتنظيم العمليات. خلاصة القول إن الانتفاضة الثانية وما اصطلحنا على تسميته في الداخل هبة القدس والأقصى كانت حراكا شعبيا عفويا وسلميا جعلته إسرائيل بهمجية وبربرية ردها داميا ومخضبا بدم الشهداء.

ثانيا: يمكننا القول إنّ هناك حدثين مركزيين في حياة المجتمع الفلسطيني في الداخل بعد النكبة عام 1948 حدّدا مراحل تطوّره، وأثّرا، بالتالي، على مسيرته بعدهما، وهما يوم الأرض الخالد عام 1976، وهبة القدس والأقصى.

المفارقة الكبرى أن الحدثين وبدون الخوض في التفاصيل، فقد كُتِبَ عن ذلك الكثير، نَجَما عن تطور هذا المجتمع واستعادته، ولو جزئيًا، لعافيته ولحيويته بعد صدمة النكبة والتهجير وتبلور هويته الجمعية وانتمائه العربي والفلسطيني. ولكن، وبدل أن يتحولا إلى رافعة للبناء المجتمعي والمؤسساتي ولطرح مشروع جماعي مقابل سياسات التمييز العرقي والاقتلاع ومصادرة الأرض والتهجير، أدّيا في النّتيجة إلى سلوك سياسي معاكس كان في جوهره اندماجيا على أرضية المواطنة والمطالبة بالمساواة الفردية بالأساس، فهل كان هذا نابعا من طبيعة الحراك الشعبي العفوي نفسه والذي اقتصر على مطالب عينية محددة مشتقة من مطلب المساواة داخل الدولة العبرية بعيدا عن مطالب قومية جماعية نابعة ومرتكزة إلى الحقوق التاريخية وحق تقرير المصير للشعب الأصلاني؟ أم أن زخم هذه الحراكات مع ما حملته من إمكانيات هائلة للتحول جوهريا إلى فعل جماعي قومي أرعب معظم القيادات والأحزاب والنخب وأعادها إلى مربع الخوف الوجودي الذي ساد بعد النكبة وتلخّصَ في الحفاظ على البقاء والوجود؟

طبعا، لا يمكن هنا إغفال العوامل الخارجية المرتبطة بالقضية الفلسطينية واستمرار الاحتلال وفشل “عملية السلام” أو ما يسمى “مشروع أوسلو”. لو استحضرنا هنا ردود فعلنا بعد يوم الأرض التي امتنعت عن التصعيد، وحوّلت يوم الثلاثين من آذار إلى مجرد يوم احتفالي للذكرى (لنتذكر رفض إعلان الإضراب مجددا لسنوات، واعتبار ذلك مجرد سلوك مغامر). وكذلك، لو تمعّنّا في فعلنا وردود فعلنا مع بعد الهبة لوجدنا سلوكا مماثلا في اختزال مطالبنا في الجوهر إلى مطالب مدنية بالأساس مع أن الوثائق الجماعية (وثيقة حيفا ووثيقة لجنة الرؤساء) حاولت في الإطار العام وضع سياق قومي وتاريخي صحيح، إلّا أنها لم تتحول إلى مشروع أو إلى برنامج عمل.

قصارى القول أننا نجحنا في لجم حراكات شعبية جماعية وطنية وقومية في منبعها، وفي اختزالها إلى مطالب ومجموعة من النضالات المطلبية الصحيحة والعادلة في حد ذاتها بطبيعة الحال. ولكنّها، وفي غياب مشروع ورؤية وطنية شاملة، تحولت وبشكل تلقائي إلى أداة اندماجية وإلى مرتكز لتبرير سلوكيات التأسرل سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. تجدر الإشارة إلى أن هذا صحيح أيضا في ما يتعلق بالتمثيل في البرلمان الإسرائيلي وكذلك في ما يتعلق بالقائمة المشتركة، التي أدّى قيامها، وهو تصرّف جماعي صحيح، إلى نتائج عكسية وهذا موضوع لمعالجة أخرى.

ثالثا: كيف كان رد فعل وإستراتيجيات المؤسسة الإسرائيلية؟

بعد الحدثين، أخذت المؤسسة الحاكمة الأمور بجدية كاملة وتجندت كل أذرع السلطة الأمنية والمخابراتية والبحثية لدراسة ما حدث، وعدّت في الحالتين أن القضية هامة وإستراتيجية وتمس الأمن القومي الإستراتيجي لإسرائيل. وفي المحصلة، وفي الحالتين، كان الهدف هو الاحتواء وليس الاندماج وتم تأكيد برادايم أن العرب الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل هم مشكلة أمنية بالأساس وخطر وقنبلة موقوتة.

ونذكر التصريحات المختلفة لقادة أمنيين وسياسيين عبر الزمن، كانت تعكس حقيقة وجوهر النظرة والسياسة المركزية، ولم تكن مجرّد تفوهات عنصرية فردية كما وصفها البعض. وجوهر هذه السياسة الإسرائيلية تجاه العرب كان الوجه الأخر لسياسة إدارة الصراع مع الفلسطينيين خلال العقدين الأخرين، وقد كانت هذه السياسة محصلة لتقاطع التوجهات الأمنية مع التوجهات الجديدة في لبرلة الاقتصاد والحاجة لتحقيق نمو اقتصادي ضمن نادي الدول المتطورة الـOECD، الذي انضمّت إسرائيل إليه في تلك الفترة. وعمليًا، كانت سياسة الاحتواء هي قراءة صحيحة للمؤسسة الإسرائيلية بأن وجهة المجتمع الفلسطيني هي للاندماج وليس للمطالبة بالمساواة القومية أو بحلول لجذور التمييز وللشراكة المتساوية في الوطن، ولهذا اعتمدت سياسة الاحتواء هذه مبدأ الجزرة، بمعنى تحسين الأوضاع التعليمية والاقتصادية للعرب، وهكذا يمكن تحقيق عدة أهداف مرة واحدة: جعل العرب يشعرون أن هناك ما يخسرونه من المواجهة، إضافة إلى ذلك رفع مستوى التعليم وخاصة الجامعي وخروج المرأة العربية للعمل سيؤدي إلى خفض نسبة الولادة (وقد حدث هذا فعلا وبشكل مدهش) وهذا ينسجم تماما مع الهدف الموازي بتحقيق التنمية الاقتصادية لإسرائيل عبر تحسين انخراط العرب في الاقتصاد الإسرائيلي.

بمعنى آخر، يمكن استخدام تعبير “سلام اقتصادي داخلي” الذي طالما حلمت إسرائيل بتحقيقه في المناطق الفلسطينية كوسيلة لإدارة الصراع. وقد طبّقت إسرائيل سياسة الاحتواء وفي نفس الوقت استمرت في سياسة فرض يهودية الدولة وسن قانون القومية ومصادرة أراضي النقب وتهجير أهله وهدم البيوت، مدركة أن المضي في هذه السياسة لن يمنع بالتأكيد سياسة الاحتواء من تحقيقها لأهدافها وهذا بالتأكيد ليس مدعاة للفخر أو الاعتزاز.

رابعا: إزاء الواقع الذي وصلنا إليه بعد 20 عامًا على هبة القدس والأقصى، هل هناك ما يمكن أن نقوم كمجتمع بالتوصل إليه لطرح مشروع وطني سياسي بديل في مواجهة سياسة الاحتواء من ناحية والسلوك الاندماجي الذاتي من ناحية أخرى؟

الإجابة هي نعم، بالطبع. وهذا أوّلًا وقبل كل شيء هو واجب الحركة الوطنية، المشكلة تكمن في السؤال هل هناك إرادة سياسية وشعبية تسعى لتحقيق ذلك؟ وهنا، من الواضح أن هناك من يتعامل برضا مع هذا الواقع ولا يسعى لتغييره بل يستخدمه لتبرير التوجه الاندماجي ولإحياء خطاب أكل الدهر عليه وشرب تحت شعار تغيير نتنياهو والتستر بإيقاف صفقة القرن. من يوصي على جنرال الحرب غانتس لدى رئيس الدولة لن يقود بالتأكيد مشروعا وطنيا جماعيا ولن يسعى لبناء المؤسسات البديلة ولتطوير الاقتصاد ولانتخاب القيادة. واجب الحركة الوطنية بكافة مركباتها المدنية والسياسية والأهلية هو العمل والتحرك وإطلاق المبادرات (كما كان في وثيقة حيفا) وفرض أجندة التغيير والإفلات من متلازمة فشل الربط بين القومي والمدني في نضالنا والوقوع في فخ أو الارتماء في حضن سياسات الاحتواء الإسرائيلية.

*نائب سابق في الكنيست وأسير محرر/ عن “عرب ٤٨”